عباس النّوري: لم أبدّل رأيي أبداً ولم أندم عليه.. لكن أحترم غضب النّاس
نجوى صليبه
“لو كنت مسؤولاً، لحوّلت وزارة الثّقافة منذ بداية الأزمة إلى وزارة حربية لأنّ معركتنا ثقافية، ما يجمعني مع فكرة الاتّحاد اليوم ـ والتي أشجّعها ـ هو أنّه لا بدّ من فتح القنوات على كلّ المستويات، وأعتقد أنّ المشهد الثّقافي السّوري فيه أسماء مبدعة كثيرة بعيدة عن النّقابات من حقّها أن تكون موجودة”.. بهذه العبارات بدأ الفنّان عبّاس النّوري “أربعاء الكاتب السّوري” الذي يقيمه فرع دمشق لاتّحاد الكتّاب العرب، مضيفاً: هناك أمور مشتركة كثيرة بين اتّحاد الكتّاب وعملنا في الدّراما، فعملنا قائم على عمود أساس يجب ألّا نستهين به اسمه القصّة.
“القصّة وثقافتها وأثرها” هو العنوان الرئيس الذي اختاره النّوري ليتفرّع منه إلى محاور مختلفة، أوّلها: اكتشاف أثر القصّة من خلال قصص الجدّات التي كانت بداية تشكيل المعرفة. يقول: كلّ شيء في الحياة فيه قصّة، والدّراما أكثر أشكال القصّة جاذبيةً وتأثيراً وتثقيفاً، ولا نسعى من خلالها إلى الإقناع بل إلى التّأثير، وأمّا قصّتي مع الدّراما فبدأت من قصص جدّاتي وأجدادي في حارات دمشق الشّعبية، حيث عاشوا واشتغلوا لتأمين حياة كريمة للأولاد والأحفاد، فجدّتي عملت “لفاية” في بيوت الأغنياء وجدّي لأمّي هو من دلّني على هذه الدّنيا.. لقد عاش ومات بشروال واحد، وأمّا جدّتي لأمّي فأصولها تركية من قرية تابعة لأزمير صعدت بالقطار بالخطأ وبقيت هنا وتزوّجت ثمّ تعرّفت على جدّتي أمّ أبي واشتغلت “لفاية” مثلها.. نحن نستوعب حالات إنسانية فظيعة قد تحصل مع الجميع وعلى كلّ المستويات الاجتماعية والنّفسية، وتلعب دورها في بناء شخصيّاتنا وليس فقط في وعينا، لذلك كنت أتحسس القصص في كلّ ما وعيت عليه. لقد أغوتني كلّ القصص التي مرّت في حياتي وشكّلتني بشكلٍ من الأشكال، وعرفت أنّ لكلّ قصة نكهة وزمن أفهمه بزمنه، ودائماً أقول: دمشق هي الرّواية الأولى والأخيرة التي لم أصل إلى نهايتها بعد، لكن في مرحلة لاحقة دخل الخوف إليّ وفقدت متعة التّفكير، لأنّه زرع نغمةً نشازاً وصار لحن كلّ القصص يزداد نشازاً مع تقدّم دمشق بالعمر.
ومع دخوله المرحلة الجامعة، تعرّف النّوري على كلّ الإيديولوجيات التي كانت سائدة آنذاك، يبين: عرفت قصص أصحاب هذه الإيديولوجيات ودخلت إلى الفكر الفلسفي أكثر منه الاقتصادي، واكتشفت مبكّراً أنّ غالبيتهم أصحاب قصص زائفة، يرتدون شخصيات الكتب في المناسبات ليخرجوا ما حفظوه أمام الميكروفون وينظّرون على النّاس، مضيفاً: بعد الخوف اختلف تعاملي مع القصص، لكنّها برمّتها قادتني إلى أهمية المعرفة التي ما أزال اسعى إليها وأسعى لأن يكون عملي وأدائي في خدمة المعنى والثّقافة، فالفنّ والثّقافة هما كشف للمعنى الذي لا معنى له من دون حرية، وحرية التّعبير ليست مشكلةً أمام حرية التّفكير، فالكاتب يكتب ما يشعر به ويحسّه، لذلك ألمع المبدعين هم أكثرهم استقلالية.
وينوّه النّوري، هنا، بما ترتكبه وسائل التّواصل الاجتماعي من تزييف وكذب وتشويه للحقائق، يقول: تأخذ بعض الأعمال الفنّية شهرتها من الـ “فيسبوك”، إذ تحمل إلينا الـ “سوشال ميديا” قصصاً كاذبةً جدّاً وللأسف نصدّقها، كما أنّها أوقعت المثقفين والفنّانين والكتّاب في حيرة كبيرة، فهي أشبه بحقل ألغام واسع للادّعاء والتّزوير، وصار العمل النّاجح هو العمل الذي تمتدحه هذه الوسائل، مع التّنويه بأنّ النّجاح يأتي من الصّدق وليس من الجرأة والشّهرة، فالجرأة شيء والصّدق شيء آخر، والصّدق يعني الشّهادة والمثقّف شاهد على العصر ويجب أن يكون كذلك ـ على الرّغم من وجود شهود زور كثر ـ والصّدق يحتاج للحرية لأنّ القيود تدخله في مسالك تحت أرض الواقع وتضّيعه في دهاليز معتمة، وبغيابه ستنتج ثقافة أخرى تنتصر على الواقع وتزيّف التّاريخ.
وبالسّؤال عن دور اتّحاد الكتّاب في الدّراما وتصحيح بعض المعلومات الخاطئة التي ترد فيها، يجيب النّوري: هكذا توليفة لا تصير بناءً على قرار.. يجب أن يكون هناك بيان يترجم إلى عمل على أرض الواقع، أنا حريص على قراءة أعمال لكتّابنا تتحدث عن دمشق وتاريخها الحقيقي، لكنّي أبحث كثيراً حتّى أجد قليلاً حقيقياً، وأقرأ كثيراً وأتخلّص من بعض الكتب وبعضها الآخر لا أنهيه لأنّي لا أجد الحقيقة في صفحاته، مضيفاً: أضع الكتّاب السّوريون أمام مسؤولية غياب الأثر الثّقافي في الدّراما، وللأسف يجب إعادة النّظر بجدارة وأحقيّة كلّ من يتصدّر الكتابة الدّرامية، صحيح أنّه يشتغل رواية غير مكتوبة لكن يمكن معالجة السّيناريو أمام أفكار مبدعة.. شاهدونا وشاهدوا أعمالنا ودللوا على أخطائنا وتحمّلوا المسؤولية معنا، متسائلاً: أين دور النّشر وأين سوق الكتاب وأين الكتّاب؟ مشكلة الثّقافة لدينا هي في منهجية التّفكير.. فالثّقافة حالة استثمار بين مبدع ومتلقي، والوجع الرّئيس هو في الاقتصاد وهويته.. للأسف نعيش ظروفاً صعبةً فهناك عقوبات وحصار وغلاء ومناخٌ عامٌ انتهازيٌ، لذلك نحن بحاجة لقوانين محفّزة لجيل الشّباب والأجيال اللاحقة لكي تأخذ مسؤوليتها أيضاً.
وبحديثه عن غياب القامات في الدّراما، سُئل النّوري عن مسؤولية الفنّان ها هنا؛ وعن مشاركته في “باب الحارة” التي تتضارب وآرائه حول تشويه الحقائق، يجيب: أنا أتّهم الكتّاب بالتّقصير وبالابتعاد عن المحتوى، وأنتقد نفسي بأني شاركت في هذا العمل، لكن أتمنّى الخوض في أعمال لها جماهيرية وجاذبية، وفي المقابل تحمّلت مسؤوليتي ككاتب في “طالع الفضّة” وغيره، مضيفاً: لن أشارك في أي عمل يعادي المزاج السّوري الوطني.. نحن أمام اختبار صعب وأمام ثقافة مشاهد استثنائية، فالمشاهد السّوري ليس مشاهداً عادياً، ونخافه من باب إحساسنا بالمسؤولية، مستذكراً “أيّام شامية” الذي أصبح أيقونةً لم يصل إلى مستواها من حيث الأثر الجماهيري أي عمل لاحقاً، مبيناً: رقابة النّاس بالنّسبة إلينا أشدّ قسوة من رقابة المؤسسات لأنّ الأخيرة رقابة موظّفين لديهم سقف محدد مثل إشارات المرور يكتبون رأيهم وفقها، فالتّاريخ لا نقوله نحن، بل إنّه يقدّم حقائق علينا قراءتها بشكٍ.
لكن، كيف يمكن التأثير على الجمهور ـ حالياً ـ في ظلّ وجود أعمال سطحية مدبلجة وأخرى مشتركة لا هوية لها؟ يجيب النّوري: كلّما كنّا صادقين كلّما كنّا مؤثّرين، فالصّدق عنوان أيّ عمل، أمّا بالنّسبة للأعمال المشتركة فنحن بحاجتها لكن ليس بهذا الشّكل السّياحي.. لا يمكننا تقديم عائلة كلّ فرد من أفرادها من بلد ويتحدّث بلهجته.. القصّة لها حاضنة أساسية هي البيئة، أنا اشتغلت في عام 2008 مسلسل “الاجتياح” ويتحدّث عن اجتياح مدينة جنين الفلسطينية وقدّمت شخصية عاشت الحدث.. لا مانع، بل أمر طبيعي أن نتحدّث بلهجات مختلفة لكن وفق ما يتطلب العمل.
ويثير الحديث عن “الاجتياح” السّؤال عن الدّراما المقاومة ـ إن صحّ التّعبير ـ وتحدّياتها.. يقول النّوري: بدايةً.. لا أحبّ مصطلح “دراما المقاومة”، وأمّا الاجتياح فأنُتج في عام 2008 وكان هناك مساعدة كبيرة جدّاً من الجيش العربي السّوري، إذ قدّم لنا كلّ المعدّات والأسلحة مجّاناً على الرّغم من أنّه أمرٌ مكلف جدّاً، واختير العمل كأفضل مسلسل على مستوى العالم وحصل على جائزة “ايمي اووردس” في نيويورك، لكن المفارقة أنّه لم يُعرض على قناة فلسطينية واحدة! مع العلم أنّي تواصلت مع كلّ الجهات الفلسطينية من دون أي جواب.
وتطرّق النّوري إلى النّقد بالقول: العمل النّاجح فقط هو الذي يستوجب النّقد، والقراءة النّقدية عملٌ إبداعيٌ يُضاف على الإبداع، نحن نجرّب دائماً ولا أحد يقدّم شخصيةً هكذا من دون تعب وجهد، لكن هذا لا يمنع من اختلاف الآراء، فمن قال إنّ كلّ النّاس تحبّ “أيّام شامية” أو “مع وقف التّنفيذ”؟ نحن مرهونون بمزاج النّاس، ومن واجبي أن أقرأ الاختلاف لأستفيد منه، وإن لم أستفد منه فأنا فنّان فاشل.
وبالسّؤال عمّا إذا كان سيبدّل آراءه أو يتراجع عنها كما في مرّات سابقة، يجيب النّوري: أنا في حياتي كلّها لم أبدّل رأيي ولم أندم عليه، لكن أحترم غضب النّاس حتّى يستوعبوا أنّي لا أفكّر ضدّهم بل أفكّر بشكلٍ علميٍّ ـ على الأقلّ أزعم ذلك ـ، مضيفاً: أنا هنا في وسط العاصمة وأتحدّث أكثر من الذين خرجوا منها، لكن بفارق أنا أتحدّث باحترام فهذا وطني وهذه دولتي.. أنا لستُ سياسياً، لكن يجب أن نكون قدوةً.