مجلة البعث الأسبوعية

الشاعر والروائي الأردني نور الدين زهير في الشام بعد أكثر من 15 عاماً على غيابه الأخير عنها: يا خيمة الله.. !!

متابعة: تمام بركات

ما من مدينة، ربما، حركت الجمر في أكباد الشعراء وأورقت نوازعهم، كما فعلت دمشق، على مرّ التاريخ، نداء خاص أو ربما رائحة ما، ترسلها تلك المدينة، فتعلق في قلوب حملة النار، وفي أردية أرواحهم، ومن لهيبها تتوثب غزالة الكلام، وينهض فهد المعنى، فتدور عن “بوابة التاريخ” أقلامهم وترتفع عن أعاجيبها الصحف.

الشاعر والروائي الأردني- العربي نور الدين زهير، زار دمشق مؤخراً، بعد أكثر من 15 عاماً على غيابه الأخير عنها، وكان من بديع ما جاد به بعد عودته إلى الأردن الشقيق، مجموعة من الملاحظات التي لفتته في المدينة الناهضة من ركام الحرب، وعلى مختلف الصعد، النفسي، المادي، الإنساني، العاطفي، وغيرها، وهذه الملاحظات التي وضع لها هذا العنوان العريض: “في الشام” تعبر عن انطباعات عميقة تركتها دمشق وأهلها في دواخل صاحب قصيدة “نجمة على كتف بردى” التي ألقاها عام 2013 ويقول فيها:

كل الجهات شآم أينما خطرت / خطاي أدنو لما أشتاق منك غدا

بالشام يعرف هذا القلب وجهته / أنى لنا دونها من أمرنا رشدا

يا خيمة الله إذ ظللت دعوته / دقي انتصارك في هام الردى وتدا

وفيما يلي نورد بعض هذه الشذرات التي تنتمي بطبيعتها إلى ما يُعرف بـ “أدب الرحلات”، خصوصاً وأن ما أورده الشاعر لغة يتفوق، في طبيعته وبنيته، على عدسة الكاميرا ونقلها المبتسر للمشهد.

 

كنت في الشام

“كنت في الشام منذ قرابة الأسبوع، ووصلت الليلة. ثمة الكثير يستدعي الحزن، والألم، وثمة ما يستدعي الفخر والابتسام أكثر.

شعب حيّ، لا تفارقه الابتسامة رغم كل المآسي، وفيه من التسامح واللطف ما لو وزّعناه على الكون لأصبح ابتسامةً على وجه فتاة تلعب.

هذه الزيارة الأولى منذ أكثر من ١٦ سنة موحشة، كما رأيت ما لا أتمنّى، فقد رأيت ما لا أتوقّع.

 

ما من حاجز نفسي بين الناس

رغم كلّ الحرب الإعلاميّة على المؤسّسة العسكريّة السوريّة برمّتها، ولأنّ أغلب الشباب خدموا في الجيش، فإنّه ليس من حاجز نفسيّ بين الناس (لا سيما الرجال) ومرتّبات الجيش والأمن.

رئيس مخفر المرور في الزبدانيّ مثلا كان يشرب القهوة مع سائقي العموميّ، وكلّ سائقي التكسي يشدّون على يدي قائلين: إذا طلب منك شي ما تعطيه! إذا طلبني حاجز على انفراد.

أعرف أنّ الموضوع حسّاس، ولا أحبّ الخوض في تفاصيله، لكن ثمة بون شاسع بين الحال في أواخر التسعينيات، حيث كان “الحلوان” أكثر شيوعاً، وبين اليوم، إذ إنّ من يطلبه – وهم قلّة – يفعلون هذا والخوف في عيونهم، بينما كان الأمر قديماً معتاداً لدرجة مزعجة.

الحدود خالية من هذه الممارسات، ولقد أقمت وتجوّلت مدّة لا بأس بها، ولم أدفع قرشاً واحداً.

والجنود على الحواجز الثابتة ودودون مع الجميع، يشاركونهم دور الشاي والضحكات.

المرّة الوحيدة التي شعرت فيها بالإرباك الحقيقي كانت على أحد الحواجز، بعد أن وضّحت لمن أوقفني ملمّحا بخجل لطلبٍ ما أنني “ضيف على بلد كريم، ولا أقبل أن أفكّر في الموضوع”. إذ طلب راكباً سورية صغيراً في السن، ولما عاد شريكنا في السيارة قال إنه دفع له، فعوّضته بأن دفعت عنه في المواصلة التي تلتها، وأنا أتمنّى ألّا يكون صادقاً.

 

السوريون والغزو الفضائي!

ربما لأننا معتادون في الأردن على شحّ المساحات العامة والحدائق، يدهشنا عندما نزور الشام تعلق الناس بها، ونفرتهم إليها مساءً كأنّهم ينتظرون ظاهرة فلكية فريدة، أو يتوقّعون غزوا فضائياً، شاركت أناسا كرسيّ حديقة يجلسون عليه قبلي، فلم ألق إلا الترحيب، ومن حولنا عائلات وأصدقاء وصديقات وعشاق وأطفال يفترشون الأرض المعشبة والمتربة، وكأن كل مساء مهرجان.

يحمل السوري نرجيلته أو لفافة فلافل، ويشتري من الباعة الشعبيين مشروباً ساخناً أو من الكشك عصيراً، أو يحمل معه زوادته من البيت، ويجلس في حديقة مزدحمة، لا تسمع فيها غير الأحاديث والضحكات.

رغم الضيق الذي نتكهّنه تكهّنا ويسرّ إلينا به الأصدقاء منهم، فإن الظاهر لنا أنهم في سيران مسائي دائم في أقرب مساحة مفتوحة.

 

قبلة السياحة التجميلية

لفتني عدد الفتيات اللاتي يظهر عليهن أنهن يتعافين من عملية تجميلية للأنف، قلت: يبدو أنّ الشام ستكون قِبلة للسياحة التجميلية. وقد سمعت أيضا من صديقة أسعار زراعة الأسنان في الشام فتأكّد ظنّي.

ترقّبوا تتطامن أسعار التجميل في الأردنّ بعد أن تعود الحدود لنشاطها.

 

السوريون هنا والآن

أكثر شيء لفتني في السوريين اليوم هو إحساسهم بمحيطهم، يندر أن تسمع كلاما يدور بين جماعة مجاورة لك كما يحدث في عمّان، ورغم الزحام الشديد في السوق، لا ترى تصادمات بين المشاة كما يحدث في القاهرة مثلا، والإسكندرية معافاة من هذا بالمناسبة، وتجد السائق في سورية يتحرك بانتباه كأنه في مناورة ما، هذا بالطبع يتسبب بخوف كبير لمن اعتاد على غفلة السائقين، أنا عن نفسي كنت هلعا أغلب الوقت.

وخلال ستة أيام قضيت أغلبها في الطرقات والأسواق لم ألحظ سائقاً واحداً ينظر في هاتفه، ومرة واحدة أجاب أحدهم مكالمة في عجالة قائلا: بابا أنا بسوق.

حتى أنهم لا يمسكون الهواتف إذا كانوا يجالسون الأصدقاء، وحين يمسكه فرد فإنك لا تسمع صوت الأشرطة التي يشغلها مطلقاً.

السوريون يفهمون فكرة (هنا والآن) جيداً.

 

هذا ليس سؤالا في الشام

لم يكن ثمة قرينة في أشكالنا أو أسمائنا على أي انتماء دينيّ، وفي هذه الحال من المتوقّع أن نقابل أحيانا بسؤال ضمنيّ أو صريح يتقصّى طائفتنا، لكنّ هذا لم يحدث قطّ، وعندما ظننت أن سائق الأجرة يدخل من سؤال إلى آخر ليسأل عن ديننا على استحياء، لا سيما إذ كنا عائدين من معلولا، أجبته باختصار، فما كان منه إلا أن تفاجأ بكيفية فهمي لأسئلته، وقال بعدها: “بعتذر منك، يمكن زودتها بأسئلتي، تكون شو ما تكون يا خيي، أهلا وسهلا فيك… ما عنا من هالحكي.”

وجدير بالذكر أن السؤال الذي يواجهنا بوصفنا أردنيين في كل أنحاء الأرض: أردني أردني، ولا أردني فلسطيني؟ (حتى لوحة مفاتيح جوجل تتوقعه وحدها الآن) لم يصادفنا مطلقا، ولا من باب إظهار المعرفة بالأردن.

المرة الوحيدة الذي كان فيها بعض رائحة بعيدة للأمر، كانت جملة عابرة من صديق يتحدث عن شيء آخر، وسارع بالاعتذار عنها بمجرد أن أبدينا تجاوبنا معها على هذا الأساس.

 

الشام بين الواقع ووسائل التواصل

بسبب كثير من السوريين الذين نقرأ لهم في وسائل التواصل، من الممكن أن نتوقّع كراهية تجاه العرب، لكن في الحقيقة، لم نجد بعد كشف أننا من الأردن إلا الحبّ والسؤال عن أوضاع بلد شقيق.

كثير منهم يبدأ بقصصه مع الأردنيين، ويكون هذا ردّة فعل على ما يظنّه إخفاء متعمدا للهجة الأردنية.

في الحقيقة، أنا من النوع الذي يجيبك بأقرب لهجة إليك متى ما سمعت لهجتك، وإذا كنت أنا بادئ الحديث فيكون لساني معتمداً على آخر لهجة سمعتها قبل لقائك، أو على ما أظنّ أنّك ستفهمه أسرع.

أما إذا طرح موضوع العروبة على الطاولة، فأنا لم أسمع هناك غير الخطاب القومي العربي بصورتيه الشعبية والنخبوية.

في قسم المخطوطات في المكتبة تتحدث رئيسة القسم لنا بكل حماسة عمن تسميهم جدودنا، وترى مخطوطاتهم منجزا حضاريا تمتلكه.

 

عن جرأة النساء في الشام ومروءة رجالها

تختلف درجة الزينة من طبقة اقتصادية إلى أخرى، وبعض العوامل الأخرى، كدرجة التديّن، وتوقيت الخروج، لكنّ الغالب الأعمّ حسبما شهدت أنّ الشاميّات لا يفقدن اكتراثهنّ بزينتهنّ مطلقا، وغالباً ما تكون معقولة مشغولة بحرفة.

في الوقت نفسه، لم يحدث أن رأيت حادثة تحرّش، أو شعرت أن فتاة تفقد إحساسها بالطمأنينة، وأنا أتحدث عمّن رأيتهن في أزقة مظلمة، إذ كنت أتوقف حتى يتجاوزني من يخيفني مشيه خلفي، ثم يتضح أنه فتاة جميلة تعبر غير مكترثة بي سواء كنت أمامها أو خلفها.

بالتأكيد، لا اطلاع لي على مشاعر الفتيات، لكن من المؤكّد أنه ما من علامات خوف ظاهرة.

شاهدت فتاة جميلة تقف على طريق سريع قليل الحركة بين مدينتين، ولم أسمع زموراً واحداً، مع أننا كنّا في أواخر النهار.

هذا الوضع يحسب لجرأة النساء، كما يحسب لمروءة الرجال.

 

لا يتفاجأ من هذا إلا الوغد

ذهبنا إلى معلولا المحرّرة. في البداية كانت النية أن نركب الميكرو تلو الآخر حتّى نصل، وبعد مدّة من الجهاد وصلنا إلى المحطّة المنشودة (لا يوجد دليل مواصلات شعبية واضح في البلاد العربية، وهذه فكرة تطبيق مهم لمن يستطيع صناعته)، وخيبة بعد أخرى، ومع اقتراب اللحظة التي لا جدوى فيها من الذهاب لأننا لن نستطيع العودة، فاوضت سائق أجرة أوقفته في الشارع، ووصلنا إلى اتفاق أن يذهب وينتظرنا ساعتين ثمّ يعود معنا، مقابل ثروة صغيرة، تقريبا راتب موظّفين سوريّين لمدّة شهر.

ومع أنّ الرقم كبير حتّى هنا في الأردن، إلّا أنّ المشوار كان مهمّاً للغاية لنا، بدأت أستعيد الذكريات على الطريق، البساتين في عين منين أقل كثافة، لكن من الواضح من طرز البناء أنّ الوضع ليس بالسوء الذي يصوّره لنا الإعلام.

خلال عبورنا للحواجز، لاحظت سحرا يمارسه السائق، فلا أحد يطلب هويّاتنا، فسألته: “هل الأمر متعلّق بلهجتك؟”، قال: “في لهجتي نقول كذا وكذا للتحيّة”، لكنّك حزرت شيئا؛ فمن تحيّتي يعرف الجنود أنّني جنديّ متقاعد منذ مدّة بسيطة.

وبعد طريق بدا أطول من العادة، وصلنا معلولا، وعلى مفرقها، سأل الشرطيّ على الحاجز: من معك؟ فأجابه السائق: زوّار. فقال: سيّاح؟ قال: نعم. سأل: أجانب؟ قال: لا… عرب. وسمعنا المرحبا ودلفنا إلى معلولا.

بدت البلدة شبه خالية، ورأينا آثار القصف والنار، لكنّها كانت أقلّ مما نتوقّعه من بلدة احتلّت واستعيدت.

أخيرا صعدنا إلى دير مار تقلا، ومشينا الفجّ جيئة وذهابا، وعندما عدنا دخلنا إلى محلّ التذكارات، فرأيت صورة ثلاثية على مغناطيس تذاكريّ لم أرها سوى هناك، وهي تجمع ثلاثة قادة سياسيّين: قائد سورية في المنتصف، وقائد روسيا، وقائد الحزب في لبنان.

استغربت البائعة من أخذي صورة لهذا التذكار المعروض، وكأنّها تقول: لا تتفاجأ، فلا يتفاجأ من هذا إلا طائفيّ وغد.

 

قبل الرحيل

كان الدكان في أعلى زقاق البيت، وفي آخر أيام زيارتي للشام، يوم الرحيل، الأحد، احتجت شيئا منه في الصباح الباكر، فمشيت نحوه معاكسا لتيار هائل من البشر، ينزلون من السفح باتّجاه الشارع الرئيس، وأستطيع أن أقول: لقد ذهلت من أناقتهم؛ فهم قضوا نهاية الأسبوع كاملة دون كهرباء.

في حيّ قد يصنّف ضمن العشوائيات، بعد انقطاع الكهرباء، تتناوب البيوت على تشغيل الموسيقا من أجهزة تعمل على البطارية لكي يطول أمد الاستماع، يبدأ مسنّ في محلّ أدوات منزلية برباعيّات الخيّام لأم كلثوم مع تقديم مناسب للقصيدة وشاعرها ومترجمها وشرح بعض أبياتها لجليسه، بصوت يصلني وأنا في البيت، ثم بعد أن تنتهي الأغنية نسمع صوت جورج وسوف آتيا من الدكان القريب، ثم تبدأ الأغاني الشعبية من إحدى الشقق بصوت مطرب شعبي أردنيّ، يبدو أنه معروف هناك وهو عيسى الصقّار على ما أظنّ.