هكذا انتقلنا إلى دعم الزراعة بالأسعار الرائجة!! الاكتفاء الذاتي بعيد المنال والأسر السورية تعيش بالحد الأدنى من الغذاء!
البعث الأسبوعية ـ علي عبود
ودّعت الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 نهج “الأولوية للزراعة” الذي حقق الأمن الغذائي تدريجيا مع بدايات تسعينات القرن الماضي، ووفر على خزينة الدولة مليارات الدولارات التي كانت ترصد لاستيراد معظم سلعنا الغذائية بما فيها التفاح والبندورة والليمون، والأهم إن هذا النهج حوّل سورية للمرة الأولى منذ عقود من بلد مستورد إلى مصدر للقمح!
ومن عاش حقبة الحصار الاقتصادي على سورية في ثمانينات القرن الماضي لمس النتائج الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة لخطط الدولة بالتركيز على نهج “الأولوية للزراعة” الذي استمر بوتيرة مستقرة حتى قررت حكومة (2003 ـ 2010) التحول من الاقتصاد الإنتاجي إلى الاقتصاد الريعي من خلال تطبيق نهج السوق الليبرالي المتوحش اللإجتماعي، وكانت أبرز نتائجه السريعة والمباشرة انتقال سورية من بلد لديه مخزون من القمح لا يقل عن 5 ملايين طن عام 2003 إلى بلد مستورد لهذه المادة الإستراتيجية منذ عام 2008.
وبدأت عملية التخلي عن نهج “الأولوية للزراعة” عمليا بخفض الإعتمادات المرصدة لمشاريع الري والاستصلاح، وبتحرير أسعار المحروقات، وبالرفع البطيء أولا ثم السريع لأسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي وكل ماله علاقة بمستلزمات التصنيع الزراعي، ما أثّر على ارتفاع تكاليف السلع والخدمات النهائية التي لم تعد في متناول ملايين الأسر السورية بفعل تعمد الحكومات المتعاقبة منذ عام 2008 على الأقل على تخفيض قدرتها الشرائية عاما بعد عام ثم شهراً بعد شهر وحالياً أسبوعاً بعد أسبوع ، وربما قريبا يوما بعد يوم!
والسؤال الذي تصعب الإجابة عليه فعلا هو: ما خلفيات وأسباب تخلي الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 عن نهج “الأولوية للزراعة”؟
من السعر المدعوم إلى سعر الكلفة
ولم يكن نهج “الأولوية للزراعة” لينجح لولا الدعم اللامحدود لمستلزمات الإنتاج، واستنفار الشركات الإنشائية ذراع الدولة الفولاذية ـ التي هشمته الحكومات المتعاقبة لصالح قطاع المقاولات الأجنبي والمحلي ـ، لبناء مئات السدود واستصلاح آلاف الهكتارات، وإنجاز الصوامع والمطاحن، مع تأمين الأسمدة والأعلاف والأدوية والمحروقات للزراعة بأقل من كلفها بنسب كبيرة ، مع أسعار تشجيعية لشراء منتجات الفلاحين!
وما يؤكد نجاعة نهج “الأولوية للزراعة” إن سورية تحولت إلى مكتفية ذاتياً من معظم السلع الغذائية مع فائض لطالما أخفقت بتصديره من جهة، وبأسعار كانت في متناول جميع السوريين دون أي استثناء منجهة أخرى ، مع ما يعنيه كل ذلك من تعزيز لقوة الليرة بفعل توفير مليارات الدولارات التي كانت تستنزفها المستوردات الغذائية.
فجأة تغيّر كل شيء مع بداية عام 2005 حين قررت الحكومة آنذاك ودون أي سبب مقنع أو معلن على الأقل الانتقال إلى اقتصاد السوق، ومنحه الأولوية المطلقة على حساب القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية لصالح القطاعات الخدمية!
وبدأنا نسمع للمرة الأولى مصطلحات من قبيل: “عقلنة الدعم” وكأنّه كان مجنوناً، وبيع مستلزمات الإنتاج بأسعار الكلفة، والتي كانت بدايته رفع أسعار المازوت في عام 2008 بحدود أربعة أضعاف!
وهكذا انتقلت الحكومات المتعاقبة من “السعر المدعوم” وبشكل تدريجي ومخطط إلى دعم الزراعة بما يُسمى “سعر الكلفة” .. فماذا يعني هذا المصطلح؟
يعني أن الحكومات المتعاقبة رغم الاحتياطي الكبير من القطع الأجنبي، وصفر مديونية، وتصدير النفط ـ لا استيراده ـ قررت بلا مبرر ودون أية أسباب معروفة أو معلنة التخلي عن حقبة “الدعم اللامحدود للزراعة” إلى حقبة “تأمين مستلزمات الزراعة بسعر الكلفة” والتي كانت نتائجها السريعة تراجع إنتاجنا من القمح واستنزاف مخزون الـ 5 ملايين طن منه، والبدء باستيراد هذه المادة الإستراتيجية بكميات كبيرة بفعل تراجع الكميات المنتجة منها إلى مستوى خطير لم تصل إليه سوى في ثمانينات القرن الماضي.
ووصلنا إلى السعر الرائج
ومن تابع مسيرة القطاع الزراعي من مرحلة الدعم اللامحدود والذي أثمر الاكتفاء الذاتي والتصدير إلى مرحلة الاستيراد خلال العقدين الأخيرين، لم يُفاجأ بقرار اللجنة الاقتصادية في منتصف العام الماضي بالتوقف عن بيع الأسمدة للفلاحين بالسعر المدعوم، ولترجمة هذا القرار وافقت اللجنة على رفع سعر مبيع الطن الواحد من سماد السوبر فوسفات إلى 1.112 مليون ليرة، وطن سماد اليوريا إلى 1.366 مليون ليرة، ونترات الصوديوم إلى 789600 ليرة.
وبتاريخ 16/8/2022 رفعت اللجنة الاقتصادية سعر طن سماد اليوريا من1.3 مليون إلى 2.4 مليون ليرة وكان لا يتجاوز 4 آلاف ليرة عام 2011.
ويمكن القول هنا إن الحكومة نجحت أخيرا منذ 1/6/2021 بالانتقال من حقبة دعم الزراعة بأسعار مدعومة إلى حقبة دعمها بالسعر الرائج، والذي أدى إلى رفع غير مسبوق لأسعار جميع منتجات القطاع الزراعي بشقيه الحيواني والنباتي مما دفع بملايين الأسر السورية إلى تقليص كميات استهلاكها من المنتجات الغذائية الأساسية، واختفاء الأساسيات منها عن موائدهم اليومية كاللحوم والفروج والبيض والألبان والأجبان إلا في مناسبات نادرة جدا!
ومن السذاجة القول إن الحكومة لم تتوقع نتائج تأمين مستلزمات القطاع الزراعي بالسعر الرائج، لكننا فعلا لا نملك الإجابة على السؤال: ما الجدوى الاقتصادية من التخلي عن نهج وفر الاكتفاء الذاتي والسلع بأسعار تناسب جميع السوريين إلى نهج قضى على الاكتفاء الذاتي وحرم ملايين السوريين من الحد الأدنى من الكفاف اليومي للغذاء؟
مؤشرات خطيرة جدا
ومع بداية تأمين مستلزمات الزراعة بالأسعار الرائجة بدأنا نلمس سريعا مؤشرات خطيرة على تراجع الأمن الغذائي لملايين الأسر السورية كان ولا يزال أبرز مظاهره انخفاض استهلاك اللبنة والجبنة وهما مادتان رئيسيتان للأطفال على وجبات الفطور وخلال 10 أيام فقط من 300 طن يومياً في دمشق إلى 150 طناً، وانخفاض كميات استهلاك اللحمة من الكيلو غرامات إلى الأوقية !
ولم يقتصر تأثير السعر الرائج على رفع تكلفة إنتاج كيلو الحليب إلى 1600 ليرة ،بل وصل إلى تراجع كميات الحليب المنتجة تراوحت بين 60 ـ 65% ،وهي النسبة نفسها التي خسرها قطاع الثروة الحيوانية .
وعلى الرغم من هذه المؤشرات الخطيرة والتي يعاني من تأثيراتها ملايين الأسر السورية فإن اللجنة الاقتصادية لم تناقشها، بل على العكس استمرت في الأشهر التالية بتنفيذ سياسة دعم الزراعة بمزيد من الأسعار الرائجة!
من يحدد السعر الرائج؟
ولو افترضنا نظرياً إن لا الظروف ولا الإمكانيات تسمح للحكومة منذ عقد من الزمن بيع مستلزمات الزراعة بالسعر المدعوم فإننا نسأل: من يحدد السعر الرائج لمستلزمات الزراعة .. الحكومة أم التجار؟
الأسعار الرائجة التي تقررها اللجنة الاقتصادية دوريا وخلال فترات قصيرة لا تستند إلى معطيات رقمية صحيحة، بدليل أن أسعارها في لبنان أقل بكثير من سورية .. فلماذا؟
والأهم إن التجار وليس المؤسسات الحكومية هم من يستورد المستلزمات وغالباً بسعر دولار رسمي، في حين تباع دائما بسعر دولار أسود، فهل هذا هو السعر الرائج الذي يتجاوز أسعار معظم الدول الأخرى ؟
الخلاصة: بما أن الحكومة تؤكد أنها مستمرة بدعم مستلزمات الزراعة بالسعر الرائج فإننا سنبقى بعيدين جدا عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية والثانوية، وستستمر السلع الغذائية الضرورية تختفي تدريجيا من موائد ملايين السوريين إلى مستوى الاضمحلال النهائي!