العقوبات الغربية.. تضخّمٌ في الغرب ونموٌّ في روسيا.. والشركات هي المستفيد الأول
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
إذا كانت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا على خلفية عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا تأتي بنتائج عكسية على اقتصادات الدول التي فرضتها وخاصة الأوروبية منها باعتراف أكثر المحللين الاقتصاديين في هذه الدول، وحتى باعتراف الطبقة السياسية التي أدركت ذلك ولكنها تحاول المكابرة، وهي أي العقوبات أدّت في المقلب الآخر إلى نموّ هائل في واردات النفط والغاز الروسي لم تكن روسيا لتحلم به بعيداً عن العقوبات، كما تبيّن أنها تصبّ في مصلحة عدد محدّد من الشركات العالمية وخاصة الأمريكية منها، في الوقت الذي يعاني فيه المواطن الأوروبي من تبعات هذه العقوبات بشكل مضطرد فيما يخص رفاهيته وقدرته على الإنفاق، فضلاً عن الخوف الشديد من عجزه عن تحمّل نفقات مضاعفة على التدفئة في فصل الشتاء الأوروبي القاسي، إذا كانت كل هذه المعطيات باتت في متناول يد الساسة الغربيين وخاصة الأوروبيين، فما الذي يمنعهم إذن من التفاوض مع موسكو على إعادة الوضع إلى ما كان عليه؟.
أسئلة كثيرة ربما لا تجد من يمكنه الإجابة عليها من الساسة الأوروبيين لأسباب ربما تتعلق بجهلهم أحياناً، أو بحقدهم الدفين على روسيا أحياناً أخرى، ولكنها في الأغلب تتعلّق بشيء آخر غير معلن يمكن أن نتكهّن فيه بوجود استفادة غير مباشرة لهؤلاء القادة من هذه العقوبات.
فإذا نظرنا إلى الواقع الذي وصلت إليه الاقتصادات الأوروبية على خلفية هذه العقوبات، نجد أنها بالمجمل تأثرت بشكل سلبي بها باعتراف منظري السياسة الأوروبية، حيث أقرّ منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل غير مرة بأن هذه العقوبات هي سلاح ذو حدّين وأن أكثر الدول الأوروبية ستتأثر بشكل كبير بها، وعلى الرغم من ذلك استمرّ هو وسائر القادة في الاتحاد الأوروبي في هذا الاتجاه، فما هو السبب الذي يدفعهم إلى ذلك مع تحقق النتيجة العكسية على الأرض، ولماذا يُمَنّون المواطنين الأوروبيين بنصر غير محقّق على روسيا في مجال هم نقطة الضعف الكبرى فيه؟.
إن المراقب للصحف الغربية اليومية يدرك أن هذه الصحف ما انفكت تحذّر من أن الوضع في أوروبا لا يمكن أن يبقى مستقرّاً في الوقت الذي يعاني فيه المواطن الأوروبي تضخّماً غير مسبوق في أسعار الوقود والسلع، فضلاً عن خوفه الشديد من قدوم فصل الشتاء دون حصوله على مورد وقود يقيه البرد القاسي، وذلك مع علمه أن الطرف الآخر الذي فُرضت عليه العقوبات لا يعاني مطلقاً منها، بل ساعدته على تحقيق نموّ أفضل، حيث كشف الصحفي الفرنسي فرانسوا لينغل أن عائدات النفط والغاز الروسية مستمرة في النموّ بفضل العقوبات الغربية على موسكو وليس على الرغم منها، فروسيا “لا تحتاج إلى تمويل، لأنها زادت عائداتها من النفط والغاز بنسبة 40٪”.
وأضاف: إن العقوبات أدّت إلى زيادة التضخم في الغرب وسمحت لروسيا بالاستفادة، بينما يضطرّ مشترو النفط والغاز الغربيون إلى شدّ أحزمتهم.
وفي ألمانيا، حذّرت تقارير إعلامية، السلطات الألمانية من موجة احتجاجات شعبية واسعة هذا العام، نتيجة التضخم ونقص الطاقة في البلاد.
ونقلت قناة “Welt TV”، عن أستاذ العلوم السياسية بـ”جامعة دريسدن”، فيرنر باتزلت، أن كل مواطن في ألمانيا سيواجه تضخّماً ونقصاً في الطاقة هذا الخريف، ما يهدّد بالتحوّل إلى احتجاجاتٍ واسعة.
وفي وقت سابق، قالت النائبة الألمانية، الزعيمة السابقة لكتلة حزب اليسار، سارة واغنكنغت: إن القيادة الألمانية يجب أن تدرك أن سياسة العقوبات المفروضة على موسكو تقوّض رفاهية ليس شعب روسيا، بل رفاهية شعبها.
وحثّت السياسيين على التوقف عن إظهار عنادهم والبدء في مناقشة مواضيع مثل رفع العقوبات، وإمكانية إطلاق خط أنابيب الغاز “السيل الشمالي-2″، فضلاً عن محادثات السلام بشأن الوضع في أوكرانيا.
هذا على الصعيد الأوروبي، أما على صعيد الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية التي حرّضت شركاءها الأوروبيين على المضيّ في سيناريو العقوبات على موسكو، فقد اعتبرت صحيفة “غلوبال تايمز” أن الولايات المتحدة هي المستفيد الأكبر من أزمة الطاقة في أوروبا، التي يمكن أن تزداد بسبب تعليق إمدادات الغاز عبر “السيل الشمالي-1″، حيث سيضطرّ الاتحاد الأوروبي إلى زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال من مصادر بديلة تحسّباً لفصل الشتاء المقبل، وهذا ما سيجعل الولايات المتحدة “الرابح الأكبر” في الأزمة الأوكرانية الحالية.
وأشارت إلى أن التحوّل في الطلب الأوروبي من خط الأنابيب الروسي إلى الغاز الطبيعي المسال دفع إلى زيادة الطلبات على ناقلات الغاز ووصولها إلى عدد قياسي هذا العام، حيث زادت الدول الأوروبية في عام 2022 مشترياتها من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة وقطر ودول أخرى، ما أدّى إلى ازدياد الطلب على ناقلات الغاز الطبيعي المسال الجديدة وارتفع سعرها، كما ارتفعت تكاليف شحن الناقلات بشكل كبير، ما ساهم في ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا وآسيا.
ولكن الفائدة التي تجنيها الحكومة الأمريكية لا تعكس بالضرورة فائدة بين المواطنين الأمريكيين لأنها في الحقيقة أرباح تجنيها شركات الطاقة الأمريكية على حساب الأزمة العالمية الحالية، ومن هنا اعتبر الناشط الحقوقي الأمريكي أجامو بركة أن الأمريكيين، بسبب الإنفاق الهائل للإدارة الأمريكية على توريد الأسلحة لأوكرانيا والحرب الهجينة ضد روسيا، يعيشون في جحيم.
ووفقاً له، لا يجب على الطبقة العاملة الأمريكية أن تدفع ثمن الوضع في أوكرانيا.
فازدياد أسعار الوقود عالمياً يؤدّي حتماً إلى ارتفاع أسعاره في الداخل الأمريكي، بينما تجمع الشركات الأمريكية المتخصصة في النفط والغاز أرباحاً هائلة عبر توريد النفط والغاز إلى أوروبا التي عليها أن تدفع أسعاراً مضاعفة للشركات العالمية وخاصة الأمريكية في غياب موارد الطاقة الروسية الرخيصة، كما أن شركات الشحن الأمريكية وناقلات النفط والغاز المتخصصة ارتفعت تكاليف إيجارها فضلاً عن ارتفاع تكاليف الشحن، وكل ذلك ينبغي أن تحصل عليه الشركات كنتيجة للعقوبات الغربية المفروضة على موسكو، بينما يدفع المواطن الغربي بالمجمل ثمن هذه الارتفاعات في أسعار الطاقة.
إذن، يتعيّن على المواطن الغربي عامة والأوروبي خاصة أن يدفع بطريقة غير مباشرة للشركات النفطية الأمريكية التي تجني أرباحاً هائلة على خلفية أزمة الطاقة الحالية، بينما يستمرّ المسؤولون الغربيون بتحميل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تبعات أخطائهم المرتكبة بفرض العقوبات على روسيا، كما فعل الرئيس الأمريكي جو بايدن في محاولة تبرير موقفه أمام المواطن الأمريكي.
ولكن ماذا لو علم المواطنون الغربيون أن قادتهم يجنون أرباحاً على مستوى شخصي على خلفية الأرباح التي تجنيها الشركات بفعل القرار السياسي الذي اتخذه هؤلاء القادة؟ وكيف سيستطيع هؤلاء مواجهة ردود الفعل الشعبية المتوقعة على خلفية الأزمات المتتالية التي تضرب الاقتصادات الأوروبية، وخاصة بعد أن أدّت هذه السياسة المتخذة ضدّ روسيا إلى سقوط حكومتين في أوروبا على الأقل؟ وهل ستتمكن واشنطن من إنقاذ حلفائها القادة الأوروبيين من ثورات شعبية في بلدانهم ربما تؤدّي إلى قلب نظام الحكم بما يعكس النقمة من النظام الغربي الحالي ويؤدّي إلى التقارب أو التحالف مع موسكو؟.
كل تلك أسئلة مشروعة سيتكفل الشتاء الأوروبي القاسي بالإجابة عليها إذا ما استمرّ القادة الأوروبيون في ركوب موجة العناد في محاولاتهم هزيمة روسيا اقتصادياً، ولن يطول الأمر كثيراً قبل أن يدرك المواطن الغربي أن قادته يفضّلون الاستفادة من الأزمات على مستوى شخصي على حساب التنمية في المجتمعات الأوروبية، وهذا الأمر ينسحب أيضاً على الحكومة الأمريكية التي تتحدّث دائماً باسم الشركات التي تمتلك حصصاً فيها، وتعمد دائماً إلى صناعة أزمات معيّنة في أماكن أخرى من العالم خدمة لمصالح هذه الشركات، وليس كما تدّعي لحماية الأمن القومي الأمريكي.