الفنّان سموقان: أتعامل مع النص كما اللوحة في التكوين والسرد
اللاذقية – مروان حويجة
يجيد الفنان التشكيلي سموقان المواءمة الإبداعية بين الريشة والقلم، فتراه يكتب بالريشة لوحاته، ويرسم بالقلم قصائده وحكاياه ونصوصه، لتغدو عنده اللوحة قصيدة، وهو الفنّان المبدع الذي يرسم القصة في إطار علاقة متبادلة ووثيقة بين اللوحة من جهة وبين كل من القصيدة والرواية (القصة) جامعاً الفن والأدب في نتاجات إبداعية نابضة بروح الفنان العاشق للطبيعة والحياة والبحر والغابة، وأي عاشق ذلك القابض على لمحة الجمال وطيفه من النظرة الأولى، ومن الشرارة الأولى، فالبطل دوماً هو الضوء في الكتابة التي يكتبها واللوحة التي يرسمها.
الرسم عنده كما الكتابة عملية بناء حيثُ يواجه اللوحة القماشة التي في الغالب تكون بيضاء، والأساس له من الأهمية التي تختلف من فنان لآخر، وهذا ما يؤكده لأن الأساس مهم كما اللون والخط والتكوين فيبدأ بلا مخطط محدّد ويبني الأشكال والألوان فتتجاور وتتراكب فوق بعضها، ويوصّف الحالة: أحذف وأضيف واترك للصدفة دورها فتتوالد الأشكال ضمن سياقات حيث تتجمع وتتحد في سياق كلي الذي هو العمل البناء المفعم بدلالات لانهائية منها المعروف ومنها المخفي وبالنسبة لي أنا أستفيد كثيراً من تكوين اللوحة بمعنى أن القصيدة عندي تعمل على المخفي أو اللامرئي كما اللوحة، فهي توليدية كطريقتي في الرسم حيث يكون البطل دوماً هو الضوء في اللوحة القصيدة.
وعن المقاربة بين الفنّ والأدب يقول الفنّان سموقان: منذُ بداياتي بالفن والأدب كنتُ أهوى المقاربة بين الأدبي والتشكيلي! فعندما اكتبُ نصاً أدبياً أتعامل معه تماماً كما اللوحة في التكوين والسرد من حيث الدلالة، وتلك هي الأبجدية التي أردتها تماماً كأنني أرسمُ لوحة تشكيلية في التكوين واللون والخط، وربما في التقنية! فكما تكوين اللوحة هو عندي مغاير كثيراً ويأخذُ أشكالاً مختلفة كذلك في القصيدة التي أكتب!
وعن إحدى تجاربه الفنيّة الأدبية الإبداعية اللافتة يستحضر من ذاكرته الخصبة الغنيّة فيقول: حدث أن عرضتُ في المركز الثقافي الروسي بدمشق معرضاً تحت عنوان “لوحات وأشعار”، حيثُ عرضتُ الأشعار كما تُعرض اللوحات على الجدران وكتبتها على لوحات طولانية، تتشابه كثيراً مع الأعمال التشكيلية، هذا من حيث الشكل البصري الذي يُفاجئ المشاهد.. فالقصيدة خرجت عن كونها تُعرض أو تُكتب في كتاب! فهي في معرض تمارس وظيفة العرض كما اللوحة. وأوضح سموقان: المدهش أكثر أن كلمات القصيدة أو القصة تتوضع ضمن سياق الكلمات الأخرى كما حالة الألوان على اللوحة التشكيلية، وتأخذ نفس طريقة المعالجة، ففي لوحتي مهما اختلفت الألوان فهي تمارس وظيفة زرقاء! وكذلك الأمر في الشعر حيثُ مهما اختلفت الكلمة تأخذ دلالتها الزرقاء، وهذه الحالة تأتي بعفوية وبطريقة توليدية وتصب في منبع الأزرق.. والسياق التشكيلي يشبه إلى حد بعيد الجملة المكتوبة.. والمشاهد أو القارئ للنص الأدبي يحس بأنه يسمع ويرى عملاً تشكيلياً، لا بل يشم رائحته ويلمسه، فتتحرض جميع حواس المشاهد ويصبح مشاركاً في العمل.
وكما يكون الضوء هو البطل في أغلب أعمالي التشكيلية كذلك هو في النصوص الأدبية التي اكتبها:
أمسكُ بالألوانَ والأغصانِ..
بالنّفطِ والحمامِ.. بالزّيت والعطرِ
واسألُ عنك ِ دربَ اللّوحة ِ
فصوتُ البياضِ قويٌّ..
هذا الفعل ُ على الجسدِ مغلّفٌ بسلطة ِ اللّونِ والحبِّ:
أسألُ عنك ِ أشجار َ الغابةِ
الضّوءُ عندَ البفسجيِّ
الحبُّ عندَ الرّماديِّ
الضّوءُ والحُبُّ عند الأزرقِ
في زمنِ اللّونِ / زمنِ الغابةِ
أسألُ عنكِ الطّيورَ في السّماءِ عندَ الأخضرِ
وعندَ الأصفرِ
وعندَ الأحمرِ
في زمنِ الخطِّ / في وقتِ الرّسمِ
وحول اشتغاله على الغابة والبحر، وكيف تجلّى هذا الاهتمام في مسيرته الفنية ومكمن الجمالية وسرها يقول عن الغابة: القد رسمت ُورقاتها.. ورقة ورقة.. كدَّست بعضها فوق بعض، لوَّنَتها بالدم والعرق، بالضوء والبرق، وزَّعَتها في كل مكان..
حميتها بالأغصان… سَمَحَتُ لقطرات الندى أن تنفذَ إليها لتتلألأ بأشعة الشمس، شكَّلتُ منها ومن حركاتِها موسيقا الصمت والحلم… موسيقى عوالم بعيدة… خفيّة أحياناً وظاهرة جذابة في أكثر الأحيان، رسمَتُ لها أفقاً من أوراقٍ مغايرة تحمل جواباً لصدى..! تستقبل الضوء والنسيم، العتم والضوء.. الشمس اللاهبة والريح الصاعقة، هي مملكة الغابة بصمتها وحزنها، برقتها وجبروتها، تتوالد بشكلها وتشاكلها مع بعضها، تنسجم وتتنافر، غابة وحشية عذراء، سمّيتها الغاب لجبروتها ومتانة جذوعها لأنها تلثمُ شفاه أقسى الرياح وأشد العواصف، وسمَّيتها الغابة لفرح الأوراق بأغصانها التي تنمو بهدوء وتختبئ تحتها النمور والسباع… ولا تحسّ إلاّ بحركة أنفاسها تتلاقح مع حركة الريح والشمس، وعن رؤيته الإبداعية الذاتية لمشهدية الغابة والأشجار يعبّر عن هذه الرؤية: أشجار تُرى بالعين وهي ضوءٌ وحركة لمكان ما… لأمكنة وأزمنة تحمل آفاقَ التاريخ.. قبَّلها البعل واليمّ.. فتعاقبت قصص الزمان وكُتبت قصائد الحياة والقوة وهذا هو سر جمالها.
أمّا بالنسبة للبحر (أو أبجدية الأزرق) فيراها محاولة لاختراع لغة بصرية تصبح في متناول جميع الحواس، أي وضع ألف باء جميع الأشكال البصرية ألتي ترى بالعين محمّلة بخاصتين فيهما طابع الفنون السورية القديمة، وبصمة التجربة الخاصة الحرة والحداثوية، لذا فالأعمال تحمل مشروعيّة البحث الدائم. وعن ماهية هذا المشروع وتجليّاته يقول الفنّان سموقان: جزء كبير من أعمالي في هذا المشروع يأخذ شكل الأيقونة وهذا الفضاء الذي أغوص فيه هو المعادل لبناء عالم أحلم فيه، حيث تأتي هنا الاستفادة من التقنيات المعاصرة، ونرى أن اللوحة تضم نوافذ عديدة في لوحة واحدة، وكل نافذة تفتح آفاقاً فتعطي قيما جمالية لعرض معين، فنرى أشرطة من الأشكال تعرض أمام العين ويمكن أن تمرر أو يمرّ المشاهد أمامها بسرعة فيرى الحركة ومستقبلها، الفعل وصداه، ويسمع القرار وجوابه، وكل ذلك في محاولة للاستفادة من الفنون المسرحية والسينمائية في طريقة عرض اللوحة.