الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نعيم اليافي..!

حسن حميد

كثيرة هي حالات الفقد التي تظلّ حالات فقد، فلا تملأ فضاءاتها المعاني، ولا الذكريات، ولا الوارثون، ذلك لأنّها حالات فقد نادرة في حضورها وجوهرها وما أبدته خلال حياتها التي لم ترتو منها النفوس أو الأحلام!.

من هذه الحالات الوجيعة للفقد، رحيل الأكاديمي الجليل نعيم اليافي الذي عاش حياته مثل الخيول جولاناً في دارات العلوم والمعارف والإبداع، ليس من أجل المضايفة لحصاد الآخرين ومدوّناتهم فحسب، وإنما من أجل أن يُرضي نفسه التي تاقت لأن تكون نفساً خارقة لكلّ حسّ إنساني، وخادمة لكلّ معطى إبداعي، وخادمة لكلّ تمظهر نبيل.

لقد آخى الدكتور نعيم اليافي، طوال حياة، نفساً ما استطاع امتلاكها أو الرضا عنها إلا عندما تمضي في دروب الشواغل والأسئلة من أجل المعرفة النافعة التي تشخّص المعلول والعلة، والمعرفة التي تنحني للإبداع الأصيل. نفسٌ طموح، وقّادة، لها جلوة النار وعصفها كيما تزيح الخبائث عن المعادن الكريمة، ونفس رائية، منقّبة في الظواهر الاجتماعية التي صار لها سطوة العرف، مع أنّها تجرّ وراءها أذيات كثيرة؛ هذه النفس العالية التي لم ترضَ إلا بما كان عالياً من الإبداع، والسلوك، والقيم، والتي لم تنشد إلا القضايا الإنسانية العلوق بالمحبة، من دون تمييز أو أحياز أو تصنيفات، والنفس العالية، عادةً، لا ترضى بالشوائب، والنوافل، والنواقص، والإغراءات، ولا تسمع النداءات المغررة، ولا تميل حين تميل الدروب التي ترسمها الخطا المطفأة، لذلك لم يكن الدكتور نعيم اليافي مجرّد أستاذ في الجامعة، يضع المنهاج ويشرحه، بل كان رائياً، يريد لهذه المعرفة المجتباة من بطون الكتب أن تصير تفاعلاً اجتماعياً ينهضُ بالحياة، أيّ أن تصير منهاجاً ودرباً لحياة محلومة؛ وهو لم يكن ناقداً هيناً سهلاً، يكتفي بشرح النصوص وتبويبها، بل كان ناراً تمرّ بين السطور لتكشف وتمايز الذّهبية منها لتبديها، والترابية منها لتنحيها، كان ناقد السرد الألمعي الذي ينتظر كتّاب السرد رأيه، وكان ناقد الشعر الذي زلّ الزائف منه ونحّاه، وكان واحداً من واضعي المداميك الأولى لنظرية نقد عربي تستند إلى ثقافة الأجداد، نقّاد النصوص العوالي الأولى الذين زانوا القصائد ونصوص السرد بميّزان الذّهب، مثلما تستند إلى ثقافة نقدية عالمية أثبتت حضورها وصوابية رؤاها منذ قرنين وأزيد من التفاعل النقدي مع النصوص الإبداعية  التي وصفت بالنصوص الذهبية، وكان الدكتور نعيم اليافي، وفي كلّ ما قاله، صاحب رأي وجيه، وحجة دامغة، ومنطق مليء بالاستقراء الدلالي، وروح لا تستخفّ إلا بما يستحق الاستخفاف، وعقل فلسفي قال بوضوح شديد: إنّ الأدب الصافي اجتماع روحين وعالمين وجمالين هما: الواقع والمجاز، وإن ّالنص الأدبي يعاني ويشكو حين لا يعرف شبكة التواصل المذهلة ما بين الواقع والمجاز، وإن النصوص الأدبية تعلو حين يصير المجاز إيهاماً واقعياً، وحين يصير الواقع مجازاً تكمن فيه الأحلام والأشواق التي تروم الجمال وطيوفه، والمغايرة وصورها.

عاش الدكتور نعيم اليافي حياته مبدعاً كيما يضيف ويُعلي من شأن المعرفة والعلوم والإبداع، لقد أراد تحطيم أسوار السكونية والرّتابة والهدوء الخادع، من أجل اشتقاق طرق جديدة لعافية إبداع جديدة، فهو لم تشدّه إليها الدروبُ التي مشاها الآخرون، لأنه أراد حياة إبداعية متجدّدة في الحضور والبهجة والجمال مثلما هي الصّباحات، أو قل مثلما هي حقول عباد الشمس حتى لو كانت أقراصها منحنية، لأنّ الانحناء للضوء رفعة وغنى.

استذكارُ الدكتور نعيم اليافي، بعدما رحل سريعاً، هو الاستذكار الذي  يعيدنا إلى مدوّنته الإبداعية الغنية، لنقرأ فيها ما أعطته موهبته الكبيرة، وما صاغه عقله النوراني، كيما نتعرّف إلى جماليات مئناس.. تخفّف من عصف الرّحيل، وثقل الحزن، وقسوة الغياب.

Hasanhamid55@yahoo.com