موت “الملكة” مؤشر على أفول الإمبراطورية
تقرير إخباري
عاد إلى الواجهة، مع وفاة الملكة البريطانية إليزابيث الثانية، الحديث عن المملكة البريطانية وعلاقاتها مع الدول التي ما زالت تدين بالولاء والتبعية للتاج الملكي، أو تلك المنضمّة إلى الكومنولث الذي أنشئ عند إنهاء الاستعمار البريطاني، وفيما يبدو أنه رغبة محمومة للتخلص من حكم الإمبراطورية التي كانت “لا تغيب عنها الشمس” في يوم من الأيام، وحتى لو كان هذا الحكم رمزياً، أعلن العديد من رؤساء الحكومات وحتى المواطنين في الدول التي أصبحت تدين بالولاء للملك تشارلز الثالث أنهم لا يشعرون بأيّ ارتباط بالملكية البريطانية، وعن عزمهم إجراء استفتاءاتٍ للتوجّه ببلادهم نحو الحكومات الجمهورية.
إحدى تلك الدول كانت أنتيجوا وبربودا، التي قال رئيس وزرائها جاستون براون: إنه سيدعو إلى إجراء استفتاء على أن تصبح البلاد جمهورية في غضون ثلاث سنوات، بعد وفاة الملكة إليزابيث الثانية.
كذلك يتزايد عدد المواطنين الكنديين ممّن يرفضون أن يمثلهم ملك أجنبي ويعدّون علاقتهم بسيادة دولة أجنبية “أمراً محرجاً”، كما أنهم يعتبرون أن معظم المعاهدات مع الشعوب الأصلية وقّعت من جانب الملكة البريطانية، وليس من جانب الحكومة الكندية، وأشار استطلاع أجرته “مؤسسة ليغر” إلى أنّ نحو 77% من الكنديين لا يشعرون بأي ارتباط بالملكية البريطانية، وحسب استطلاع رأي أجراه “معهد أنجوس ريد” في شهر نيسان الماضي، تبيّن أنّ 51% من الكنديين لا يريدون استمرار النظام الملكي.
وكانت الأحاديث تدور عن الانفصال عن الملكية حتى قبل وفاة الملكة إليزابيث، وهو ما أشار إليه رئيس وزراء جامايكا أندرو هولنس، حيث أعلن في البرلمان الجامايكي في آذار الماضي أنه حان الوقت لامتلاك قرارنا والاستقلال.
وحتى في بريطانيا نفسها، وبعد يوم واحد فقط من وفاة الملكة إليزابيث، بدأ الحديث في أعمدة الصحف “عن مصير الملكية وهل يجب أن تتغيّر”، حتى إن بعض الكتاب هاجموا الملكة ونعتوها بصفاتٍ مثل “المُستعمِرة”، وقد نُشرت عدة تغريدات ساخرة ومسيئة للملكة على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب تاريخ الملكية الإمبريالي، كما تعرّض حزب المحافظين البريطاني الذي يستمدّ قوّته من الملكية للهجوم بسبب أدبياته الملكية.
ففي يوم وفاة الملكة إليزابيث، كتبت مايا جاسانوف، أستاذة التاريخ في جامعة هارفارد، في صحيفة نيويورك تايمز: “الآن بعد رحيلها، يجب أن ينتهي النظام الملكي الإمبراطوري أيضاً. نحن لا نرى حقاً مغزى النظام الملكي”. كذلك نشرت أستاذة في جامعة في ولاية بنسلفانيا تغريدة كتبت فيها: “إنها تأمل أن تكون الساعات الأخيرة من آلام الملكة مؤلمة”، كما شاركت الكاتبة في مجلة ذا أتلانتيك، جيميل هيل، على حسابها في تويتر قائلة: “إن على الصحفيين واجب تغطية ما وصفته بالآثار المدمّرة لحكم إليزابيث. الصحفيون مكلّفون بوضع الموروثات في سياقها الكامل، لذلك من المناسب تماماً فحص الملكة ودورها في التأثير المدمّر للاستعمار المستمر”. أما الصحفي في “واشنطن بوست”، يوجين سكوت، فقد كتب تغريدة يتساءل بها عن الوقت المناسب للحديث عن الاستعمار في ظل الملكة.
النفور من الملكية البريطانية لا يعدّ جديداً، وخصوصاً مع الإرث الثقيل الذي تركه الاستعمار البريطاني على الأمم التي احتلها سابقاً، ولا يقتصر الأمر على الإبادة الجماعية التي ارتكبها بحق الشعوب التي احتُلت أراضيها أو سيقت كعبيد وبيعت في مناطق أخرى، بل يتعداها إلى تفتيت الأمم المحتلة عبر زرع الحدود التي تفصلها حالياً وتثير كثيراً من النزاعات الحدودية، وحتى المعارك بين من كانوا في الأيام شعوباً موحّدة، ولا تنتهي بالتغيير الديموغرافي لتركيبة السكان في قارتي آسيا وإفريقيا، ولاسيما في وطننا العربي، حيث ساهم الوعد المشؤوم لوزير خارجية الاستعمار البريطاني آرثر بيلفور عام 1917 بزرع الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وتم الإعلان عنه عام 1926، وما أعقبه من مجازر وتهجيرٍ بحق الشعب الفلسطيني الذي ما زال يعاني منه حتى الآن.
إذاً، وفي جملة المتغيّرات العالمية من تراجع الأحادية القطبية للولايات المتحدة، وبروز روسيا والصين كقوى مكافئة لواشنطن، جاءت وفاة الملكة البريطانية وما رافقها من حديث عن استقلال الدول التي ما زالت تتبع للتاج البريطاني، كمسمارٍ أخير في نعش الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة منها والجديدة، ما يبشّر بأفول عصر الاستعمار، ويعطي الأمل بمستقبل تحترم فيه الدول العظمى دول العالم الثالث.
إبراهيم مرهج