سورية والعالم
د خلف المفتاح
منذ مئات السنين وعيون العالم على سورية، والتي كانت تسمى بلاد الشام؛ وثمة اسباب عديدة تقف وراء ذلك، منها موقعها الاستراتيجي، حيث تشكل حلقة الوصل بين شرق آسيا وأوروبا، وكذلك الطريق البري إلى مصر، إضافة إلى الجزيرة العربية وشرق أفريقيا، إذا علمنا أن طرق التجارة العالمية كانت تتلخص في تجارتي الحرير والتوابل بشكل أساسي. وإذا كانت سورية بموقعها الجيوسياسيي ذات أهمية استثنائية فإن الأمر لا يقف عند ذلك، فالسوريون كانوا من أبرز البحارة والتجار يجوبون منطقة المتوسط وسواحله ويقيمون المراكز التجارية والحضارية حيثما حلوا، من جنوة والبندقية والاسكندرية وقرطاجه وصولا للسواحل الفرنسية، فحوض المتوسط كان المجال الحيوي للسوريين، وهم سادته بامتياز. وبالإضافة إلى الموقع الجغرافي والنشاط التجاري، كانت سورية الطبيعية التي تمتد من سواحل غزة إلى هضبة كيليكية مركزا اقتصاديا وصناعيا مهما، فدمشق والقدس وصور وبيروت وطرابلس وحلب كانت مراكز إنتاج المنسوجات والزيوت والصابون والخزف، والتي تغذي كل أسواق أوروبا بمنتجاتها، ما حدا بالتجار الإيطاليين لعقد اتفاقيات تجارية مع نظرائهم السوريين ليوردوا كل هذه المنتجات إلى الأسواق الأوروبية. ولعل وجود جاليات إيطالية وأوروبية في بلاد الشام منذ مئات السنين هو ما يفسر كل ذلك، وهذا غير مرتبط بموضوع التبشير المسيحي كما يحلو للبعض تفسيره ورده لذلك السبب، فالعلاقات التجارية بين بلاد الشام وأوروبا كانت تاريخياًٍ أسبق من ظهور المسيحية.
وقد ازدادت بلاد الشام أهمية بعد ظهور الديانات السماوية، بدءاً باليهودية والمسيحية وصولاً للإسلام، فأصبحت طرق الحج، إضافة إلى طريقي الحرير والتوابل، تمر عبرها ومن خلالها، ما منحها أهمية استثنائية وجيواستراتيجية، وجذب إليها بشكل اوسع أنظار الغزاة من رومان ويونان ومغول وتتار وصولاً للأتراك والأوروبيين في العصور الوسطى والحديثة. ولعل ما تواجهه سورية حاليا من تكالب دولي عليها يفسر تلك الحقيقة التاريخية والمزمنة، فبقدر ما انطلق التجار يجوبون أرضها وبحارها كان مئات الآلاف من الحجاج يقصدونها كونها الوطن الروحي والعاصمة لمئات الملايين من المؤمنين في أصقاع العالم، ومن كل الديانات السماوية. وغالباً ما تلحّف الطامع بأرضها وخيراتها بالدين غطاء وتضليلا لذلك، وقد أتاح مناخ بلاد الشام المعتدل ثقافياً واجتماعياً ودينياً وسياسياً الفرصة للجميع كي يعيشوا متناغمين متفاعلين في إطار إنتاج مجتمع متجانس متحاب لا يعرف الحقد والتطرف والغلو بكل أشكاله.
إن هذه الفرادة لبلاد الشام وأهلها وسكانها وعبقريتهم وأصالتهم هي ما يفسر إلى حد بعيد أن دمشق هي من يمسك بمفاتيح المنطقة، ففيها قامت إمبراطورية عرفها التاريخ هي الدولة الأموية عربية الهوى والهوية، والتي امتدت من أقاصي الصين شرقاً حتى وسط أوروبا غرباً وكامل شمالي أفريقيا، ومن أرضها انطلقت جحافل المقاتلين لتحرير القدس وفلسطين من سيطرة الفرنجة الذين لم تقم لهم قائمة إلا بعد قيام الإمبراطورية العثمانية التي جثمت على جسد الأمة لأربعة قرون، علما أن الثورة العربية الكبرى انطلقت لتحرير العرب من الأتراك من مكة ولكن مركز قرار الحرب على الأتراك كان في دمشق التي اتخذت عاصمة للدولة العربية المنشودة، عام ١٩١٩، تحقيقاً لحلم راود قادة الثورة العربية الذين غدر بهم الحلفاء عبر اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت بلاد الشام والعراق لتكون مناطق نفوذ لهم، في أكبر خيانة مارسها الإنكليز والفرنسيون بحق أبناء الأمة العربية، ولاسيما أبناء بلاد الشام والعراق الذين ضحوا بمئات الآلاف من الشهداء في الحرب العالمية الأولى بهدف تحقيق الاستقلال، الأمر الذي أشار اليه وبتفاصيل دقيقة الجاسوس البريطاني “لورانس” في كتابه “أعمدة الحكمة السبعة” الصادر مطلع ثلاثينيات القرن الماضي.
لقد أعطى الصراع العربي الصهيوني أهمية إضافية لبلاد الشام، وتحديدا سورية، لجهة أن فلسطين تمثل الجزء الجنوبي من سورية الطبيعية.. هكذا هي في وعي السوريين، إضافة إلى أنها جزء من الأمة العربية والوطن العربي. وشكل تمسك السوريين بهذه الحقيقة عقدة للصهاينة وحماتهم الأوروبيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حاول الصهاينة وأعوانهم طي ملف الصراع عبر اتفاقيات سلام بينهم وبين مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، واصطدمت تلك السياسات بالرفض السوري المتمسك بعودة الأرض والحقوق لأصحابها، بما في ذلك حق العودة، وهو ما أصرت عليه القيادة السورية منذ عهد الرئيس الخالد حافظ الأسد، واستمرت متمسكة به في ظل قيادة السيد الرئيس بشار الأسد الذي رفض كل أشكال الاغراء والتهديد لترك ذلك الخيار الذي يعبر بالنتيجة عن خيار وطني ثابت وأصيل.
والحال.. إن ما يفسر كل هذا الاستهداف التاريخي لسورية وشعبها هو جملة ما تمت الإشارة إليه من موقع جيواستراتيجي وأهمية ودور تاريخي محوري في قضايا المنطقة، وموقف ثابت وحازم في قضية الصراع العربي الصهيوني، تمسكت به القيادة السورية، وما زالت، ما يعني أننا أمام معادلة تاريخية فذة تتفاعل فيها جملة عناصر تاريخية وثقافية واقتصادية ودينية، يعززها موقف سياسي حازم وثابت وصامد أعطى ومنح قيمة مضافة ونوعية جعلت من سورية الرقم الصعب في المعادلة الدولية ولاعباً أساسياً في لعبة الأمم.