حرف طرطوس التراثية.. لوحات متكاملة الجمال وأيقونات إبداع أبهرت العالم
طرطوس- محمد محمود
رحلة لعالم من الجمال والذوق الرفيع تأخذنا إليه منتجات حرفيين مهرة في الساحل السوري، وفي مدينة طرطوس تحديداً مدينة الفن والإبداع والجمال.
فما تزخر به الأراضي السورية من أثريات وفنون وحرف تقليدية يجعلك ترى التاريخ ماثلاً أمام عينيك في كل خطوة تخطوها، إنها مهد الحضارات تستمد عناصرها من الجغرافية والإنسان والتاريخ والثقافة والفنون، منها كانت بداية الانطلاق في رحلة الزمن والتاريخ وانطلاقة الإنسان في الابتكار والإبداع.
ولطالما كان الساحل السوري مشتهراً بتنوع الحرف والصناعات اليدوية التي تصنع على يد حرفيين مهرة محافظين على تراثهم وموروث أجدادهم من الحرف التي بدأت منذ مئات السنين.
متحف كبير
وفي بحث عن توثيق الحرف التراثية في الساحل السوري وفي طرطوس يتحدث منذر رمضان عضو مجلس اتحاد الحرفيين بطرطوس وباحث ومهتم بالتراث السوري أننا كشعب عريق نعيش في متحف كبير مع هذا التراث بين تلك الفنون والإبداعات التي ينتجها الحرفيون السوريون من مخزونهم الثقافي والشعبي الذي يعبر عن لوحة متكاملة الجمال.
فحضارتنا ليست طفرة ولا تقوم من فراغ أو تنبثق من عدم بل تكاملت عناصرها ضمن عملية بطيئة عبر مئات السنين لتشكل وجداناً راقياً من العادات والتقاليد في النسيج الاجتماعي ناتج عن ثقافة شعبية أصيلة تعبر عن تفاعل الإنسان مع محيطه في شتى ميادين الحياة لتبقى قيماً راسخة تتناقلها الأجيال وتحفظ سمات هذا الشعب وثقافته المتجذرة في عمق التاريخ.
السفن الخشبية
ويبين رمضان أن السفن الخشبية كانت أهم نتاج لحرف أبدعتها أيدي أجدادنا الفينيقيين الذين لقبوا بملوك البحار فهم من صنعوا السفينة الأولى والأقدم في العالم وسميت (قادس) ذات الشراع الواحد والتي اعتمدت أيضاً على طاقة الرجال واستخدمت للتجارة والحرب لأنها كانت تصلح لجميع المهام وبدء الفينيقيون بتطوير سفنهم التي بدأت منذ ما يقارب ٢٥٠٠ عام قبل الميلاد والتي ساهمت في الازدهار التجاري بين الدول كما أنها طورت أساليب الصيد البحري من خلال زوارق الصيد وقد تم تصدير سفنهم بأحجام مختلفة إلى العالم، ولكن أصبحت هذه الحرفة مهددة بالتوقف في المستقبل القريب لقلة ممتهنيها وتحتاج إلى كل الدعم للحفاظ عليها من الاندثار.
كنز أثري
جانب آخر من الإبداع التراثي تحدث عنه الباحث وهو صناعة خيوط الحرير التي تم تصديرها للعالم وكان طريق الحرير يمر عبر سواحلنا، فهذه الصناعة كانت بحق كنزاً أثرياً شهدت ازدهاراً في حقبات ماضية فكان أن اهتم به الأجداد وأهمله الأحفاد حتى أصبح عدد المحافظين على هذا الموروث قلة قليلة رغم عدة محاولات من كافة الجهات لإعادة إحياءها إلا أنها ما زالت محاولات خجولة تحتاج لخطة ترويجية وتأهيلية لهذا المنتج ليعود لألقه من جديد.
ومن الحرف الهامة لطرطوس كما أوضح رمضان صناعة السجاد اليدوي والبسط التي ما زالت مستمرة حتى اليوم ونجد إقبال على اقتنائها حيث أنه يطبع إرثاً حضارياً وجمالاً مميزاً لا يضاهيه أي سجاد صناعي من حيث التصاميم ونوعية الخيوط المستخدمة.
تنوع فريد
ويؤكد رمضان على التنوع والغنى في الحرف التراثية، حيث اشتهر الساحل السوري بصناعة الفخار وما زالت هذه الصناعة متواجدة وتمتهنها قلة قليلة كوسيلة لكسب الرزق وهي من الحرف التي تشهد تراجعا ينذر بخطر اندثارها من الساحل.
وهناك صناعة القش التي تنتج من تجميع القش من سويقات القمح خلال موسم الحصاد بشكل يدوي ويتم تقشيره وتنظيفه وتشميسه وصباغته بالألوان المطلوبة لتأتي المرحلة الأطول وهي التصنيع لتحويله إلى أطباق مزخرفة تحولت من أطباق كانت تستخدم للطعام حيث كان شريكا في إلتمام العائلة لتناول طعامهم، كما أنه كان شريكا في الاحتفالات بالمواليد الحديثة في بعض الطقوس التي كانت تمارسها نساء الأرياف حيث يتم وضع المولود في طبق من القش الجديد ليكتسب الطاقة الإيجابية بحياته المستقبلية تفائلاً منهم ببركة سنبلة القمح التي صنعت منها هذه الأطباق وقد تحولت في عصرنا لوحات فنية تزين جدراننا بألوان وزخارف دمجت الحضارة والتاريخ.
كما نجد القصب وقد تحول إلى سلال وأطباق وأشكال فنية شكلت جزءا هاما من هذا التراث الذي يمزج المهارة بالكد والتعب والعرق ليتم تقديم منتج جميل تفوح منه رائحة التاريخ.
تحف مبتكرة
ويكمل رمضان متحدثاً عن إضافات خاصة مرتبطة بالحرف التراثية الساحلية فمن البحر وأصدافه ورمله وحصاه قصة تاريخ وحاضر لا يتوقف حيث تم تحويلهم لتحف فنية مبتكرة تجسد أحياءه وسفنه وجماله منها ما لا يحتاج لأي معالجة كالصدفيات الكبيرة التي تصدر هدير أمواجه بمجرد أن نضعها قريبة من آذاننا ومنها ما يعتبر لوحة صنعت بيد خالقها دون تدخل البشر.
كما أن لنبات الأرض الطيبة لساحلنا السوري والذي تحول إلى مقطرات من ماء الورد والزهر وعطور ومستحضرات طبية على أيدي مختصين من الحرفيين الممتهنين بإنتاجها والتي تعتبر من الصناعات التقليدية الهامة لما لها من مردودية اقتصادية هامة.
الغنى التاريخي
ويتحدث رمضان أن الحرف المتعددة للساحل يجعلنا نعجز عن وصفها بأسطر قليلة فهناك حرف كثيرة يمكن أن نمر على ذكرها اشتهرت طرطوس بها ومنها الحفر على الفضة والنحاس والزجاج الملون والمعشق واللوحات القماشية ولوحات التحريق على الخشب، وأعمال الصوف والسنارة، وهناك صناعة الآلات الموسيقية كالعود وغيره وصناعة الخيزران وصناعة الملاعق الخشبية ودبس الرمان والخل والألبان والأجبان والقريشة والسمن العربي والشنكليش والجبنه البلدية والمربيات واللبن المجفف والزعتر البلدي والمخللات وخبز التنور وهناك الكثير من الحرف التي تشكل تتوعاً حيوياً وثروة بيولوجية هامة جداً لاعتبارات بيئية واقتصادية وعلمية وثقافية وجمالية وأخلاقية إذ تساهم النظم البيئية في تقديم خدمات الإنسان بكافة مناحي الحياة.
الدعم ضرورة
ويختم الباحث منذر رمضان بضرورة العمل الجدي والمستمر لدعم هذه الحرف التراثية والمحافظة عليها بكافة الوسائل المتاحة، فنحن نقوم بهذا الدور وفق ما أمكن من خلال تسليط الضوء عليها من خلال كافة الوسائل الإعلامية المتاحة والندوات الثقافية، وإقامة دورات تدريبية، كما أننا أحدثنا سوقاً لهذه الحرف في مدينة طرطوس ويتم العمل على إحداث سوق آخر في مدينة بانياس بالتشارك مع مجلس مدينة بانياس، لكن رغم ذلك نجد بأن هذه الإجراءات غير كافية.
لأن مهمة الحفاظ عليها تقع على عاتق الجميع دون استثناء فما يقدمه السوريون ليس عابراً أبداً وهم منذ الحرف الأول والعاصمة الأولى والأقدم ما زالوا يرفدون الحضارة البشرية بكل ما هو فريد ومتميز ومبهر، لذلك علينا أن نستمر في عمليات التطوير والبناء والتقدم في مختلف الميادين والمحافظة على إرثنا وتاريخنا المشرف، فنحن نملك أثمن رأس مال في العالم وهو العقل كما أننا نملك الإرادة والتصميم، وأهم من كل ذلك أننا من هذه الأرض الطيبة منبع الحضارات من وطننا الغالي سورية.