مجلة البعث الأسبوعية

احتجاجات بطعم ذكريات الحروب العالمية  

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

مع دخول الحرب في أوكرانيا واستمرارها للعام الثاني، اندلعت مظاهرات احتجاجية في المدن الأوروبية الكبرى في تعبير عن الشعور المتزايد بأن الناس قد سئموا الصراع الذي طال أمده وخائفون مما يمكن أن يأتي إذا استمرت الحرب لفترة أطول. تشكل ذكريات الحروب العالمية الكارثية التي عصفت بأوروبا في النصف الأول من القرن الماضي، والتهديد الرهيب بالإبادة النووية الذي قسم القارة في النصف الثاني من القرن، الأساس المؤلم الذي يبدي الأوروبيون من خلاله نفورهم من هذا الصراع، الذي يمكن أن يخرج عن نطاق السيطرة ويحدث حرب كبرى في أوروبا والعالم مرة أخرى.

معارضة واسعة للحرب

كانت هناك مظاهرات احتجاجية في ألمانيا وفرنسا وجمهورية التشيك واليونان وإسبانيا وبريطانيا وبلجيكا والنمسا وإيطاليا وألبانيا ومولدوفا وغيرها، وكانت الاحتجاجات الأوروبية بالذكرى السنوية لبدء الصراع قد امتدت بشكل ملحوظ إلى طيف اليسار واليمين في معارضة إمبريالية حلف االناتو التي تقودها الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها الأوروبيون على خلفية العقوبات المفروضة على روسيا و تمويل أوكرانيا.

وكان عمال الموانئ الإيطاليون المتحالفون مع اليسار قد احتجوا في جنوة على وجه التحديد لمنع استخدام الموانئ الإيطالية لتوريد شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا. وفي سياق متصل، دعت مظاهرات نظمها حزب الوطنيين اليميني في فرنسا  في مواقع مختلفة في جميع أنحاء البلاد إلى انسحاب فرنسا من كل من الناتو والاتحاد الأوروبي.

اعتبر المحتجون الذين نزلوا إلى الشوارع  التورط في الحرب على أنه ضار بالرفاهية الاقتصادية العامة، وقد أعربوا عن إحباطهم من إذعان بلدانهم لهذه المنظمات الحكومية الدولية والعابرة للحدود في تأجيج العنف و تثبيط الحوار. كما أصبحت مشاعر الشك تجاه الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قوية بشكل متزايد في أوروبا، وذلك بسبب الطريقة التي تتعامل بها الدول الغربية مع الحرب. ففي أذهان العديد من الأوروبيين، فإن حكوماتهم تتبع إرادة واشنطن بتهور، الأمر الذي قد يقودهم إلى تصعيد خطير نحو حرب أوسع.

الذاكرة الألمانية

عانت ألمانيا كثيراً خلال الحربين العالميتين، واستمرت في تحمل ضغوط الانقسام والاحتلال الأجنبي خلال الحرب الباردة،حيث لا يزال قرن من الألم والاضطراب الناجم عن النزعة العسكرية والتدخل يغذي الوعي الجماعي للبلد. و جزء من احتجاجات الذكرى السنوية، تجمع آلاف الأشخاص حول بوابة براندنبورغ الشهيرة في برلين لحضور حدث يسمى “انتفاضة من أجل السلام”، وكان التجمع بمثابة استعراض لدعم “بيان من أجل السلام”، والذي كان قد تلقى بالفعل أكثر من نصف مليون توقيع بحلول وقت التجمع. دعا البيان إلى إنهاء الصادرات العسكرية إلى أوكرانيا وإجراء مفاوضات بين كييف وموسكو. وفي إطار متصل نظمت مظاهرات في نورمبرغ رداً على خطة الحكومة الألمانية لإرسال دبابات إلى أوكرانيا، وفي ميونيخ، خلال “مؤتمر ميونيخ الأمني”، وخارج القاعدة الجوية الأمريكية البارزة في رامشتاين حيث تناقش مسائل مهمة تتعلق بالصراع الأوكراني بين القادة الغربيين.

وذَكر أحد المتظاهرين في مظاهرة نورمبرغ بالسجل التاريخي، موضحاً أنه إذا تورطت ألمانيا في حرب أخرى مع روسيا، فعندئذ استناداً إلى التاريخ، فهذه أسوأ إشارة يمكن إرسالها، وشدد على أنه يجب ألا تمر أي حرب عبر ألمانيا، لا بشحنات أسلحة ولا أي شيء آخر، وإلا فإن ألمانيا ستكون في منتصفها مرة أخرى.

تجدر الإشارة إلى أن آخر مرة اندلعت فيها الحرب في أوروبا بين البلدين كانت من أكثر الأحداث كارثية في تاريخ البشرية. يعكس هذا الرأي بصيص الأمل قبل بضعة أشهر فقط من بدء العملية العسكرية الروسية بأن استكمال خط أنابيب “نورد ستريم 2” كان من الممكن أن يعزز العلاقات ويمنع الصراع في أوروبا، خاصة فيما يتعلق بروسيا وألمانيا. لكن التخريب والتدمير الغامض لـخط الأنابيب، وتقرير سيمور هيرش الذي يظهر تلوث الأيدي الأمريكية والحلفاء في عملية التخريب قد قلب هذا الأمل رأساً على عقب. ورغم أن أولئك الذين يسعون جاهدين من أجل السلام ووضع حد لإراقة الدماء يشعرون بالإحباط لأسباب مفهومة، ومع ذلك فإنهم متحمسون للتحدث بصوت عالٍ مع القادة الأوروبيين للضغط من أجل السلام.

عبر المحيط الأطلسي

كانت هذه التجمعات موازية لمسيرة الغضب ضد آلة الحرب في واشنطن، حيث احتج الأمريكيون على تمويل الولايات المتحدة وتسليحها لأوكرانيا، بالإضافة إلى الإهمال الدبلوماسي في منع التفاوض، والعمل على إنهاء القتال. وكان لدى الذين كانوا يتحدثون ويتظاهرون ضد التدخل الأمريكي في أوكرانيا شكاوى موازية تجاه حكومتهم، ويرددون تلك الموجودة في أوروبا، حيث وجدت الأصوات الممتدة من الطيف السياسي من الاشتراكيين إلى الليبراليين أرضية مشتركة في معارضة جولات عديدة من حزم الأسلحة والمساعدات المالية لأوكرانيا، وكذلك عدم وجود مسؤولية دبلوماسية من جانب وزير الخارجية أنطوني بلينكين في التواصل مع نظيره، وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

وكان الرئيس جو بايدن قد قام منذ التجمع بتضمين 6 مليارات دولار في أوكرانيا، وتمويل الناتو كجزء من طلب ميزانية الدفاع البالغ 842 مليار دولار لعام 2024. وفي الوقت نفسه، التقى بلينكين لفترة وجيزة مع لافروف على هامش اجتماع مجموعة العشرين في نيودلهي دون إحراز تقدم ملموس بشأن موضوع إنهاء الأعمال الحربية في أوكرانيا. وبينما تظل آمال الجانب الأمريكي قاتمة، ربما تؤثر الاحتجاجات في أوروبا على القرارات على مستويات القيادة في بلدانهم.

وفي إطار متصل قوبل التزام الغرب تجاه أوكرانيا بالمعارضة في مناطق أخرى، ففي مؤتمر ميونيخ للأمن هذا العام، أعرب قادة من الدول غير الغربية عن ضرورة إيجاد حلول سلمية، حيث دعا وزير الخارجية البرازيلي ماورو فييرا العالم إلى “بناء إمكانية التوصل إلى حل”، بينما قالت نائبة رئيس كولومبيا فرانسيا ماركيز: “لا نريد الاستمرار في مناقشة من سيكون الفائز أو الخاسر في الحرب. كلنا خاسرون، وفي النهاية، فإن البشرية هي التي تخسر كل شيء”.  كما شددت رئيسة وزراء ناميبيا، سارا كوغونجيلوا أمادهيلا على إهدار الأموال والموارد باسم العداء الذي يمكن استخدامه بشكل أفضل لتعزيز التنمية في أوكرانيا، وفي أفريقيا وآسيا، وفي أماكن أخرى في أوروبا نفسها، حيث يعاني الكثيرون بشكل كبير. وفي ذات السياق ذهبت الصين إلى حد وضع الخطوط العريضة لتسوية سياسية للأزمة الأوكرانية في ذكرى بدء الحرب.