دراساتصحيفة البعث

بعد جدار “أوكرانيا”.. هل ستنتقل النار إلى واشنطن؟

أحمد حسن 

وأخيراً تجمّعت أركان “فخ ثيوسيدس” بأكملها. روسيا، القوة الصاعدة والقوية “والقادرة على حماية تاريخها وثقافتها وشعبها، ومواجهة الهيمنة الغربية، وصولاً إلى بناء عالم جديد لا مكان فيه لسياسات الإلغاء والحصار”، كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رفضت استمرار حالة “أن تعاني كما يجب”، وتحديداً رفضت استمرار المهانة لأن “أقنعة الغرب الذي حاول في عام 1991 تفتيت روسيا وتحويلها إلى شعوب متحاربة، سقطت”، وأعلنت رفضها بالفعل لا الكلام فقط في وجه القوة المسيطرة التي رفضت -كمثيلاتها من القوى العظمى السابقة – أن تعترف بأن العالم يتغيّر.

ولما كانت المواجهة المباشرة بينهما مستحيلة لأسباب معروفة، فقد كانت النتيجة “الطبيعية” لذلك زعزعة جغرافيا أوروبا كما لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية، إذا استثنيا سقوط جدار برلين وتقسيم يوغوسلافيا، لكن هذا يعني بدوره اندلاع “الحرب الكبرى”، وإن بأشكال مختلفة، فموسكو وواشنطن لن تستطيعا التراجع بعد اليوم.

الصراع بالأصالة

بهذا المعنى، لم يعُد ممكناً بعد اليوم التستّر خلف صراع يدور بالوكالة في أوكرانيا، وإنّما عن صدام خطير “لم تَعُد له حدود جغرافية محدّدة، نتيجة الدعم العسكري والمالي المُقدَّم لكييف من حلف الناتو ودول أخرى”، حسب رئيس قسم الأمن الأوروبي في “معهد أوروبا” التابع لـ “أكاديمية العلوم الروسية”، ديمتري دانيلوف، فـ”الأمر بات يتعلّق بحماية الحدود الجديدة لروسيا، حيث ستنشأ مشكلة أخرى تتعلّق بتحرير المناطق الروسية الجديدة، وسيَظهر سياق جديد تماماً ويتطلّب مقارباتٍ مختلفة”، وبالتالي كما ينبّه الرجل، “في الوضع الحالي، تزداد مخاطر استخدام الأسلحة النووية”.

الجميع يعرف ذلك منذ البداية، وربما كان هذا هدف واشنطن الأساس، فهي ستستمر في إشعال الحرائق، حتى لو كانت نووية، في العالم، كي لا تشتعل النيران في محيطها بل في أراضيها، وذلك كان دور أوكرانيا كما هو دور “تايوان” القادم، ثم إن للحرائق دوراً آخر وهو “أكل” اقتصاد الدول المنافسة و”بشرها” أيضاً.

دور جريمة “نورد ستريم2” 

وبهذا الإطار يمكن وضع جريمة “نورد ستريم2” التي تتوافق تماماً مع مصالح واشنطن الجيوسياسية والاقتصادية، فهي “تلغي بالنتيجة إمكانية وصول إمدادات الوقود الروسي إلى أوروبا”، وبالتالي تضمن واشنطن “ألا يحاول الأوروبيون، وألمانيا بالدرجة الأولى، بسبب نقص الوقود في الشتاء البارد، تسوية العلاقات مع روسيا”، أي تضمن وقوفهم النهائي في خندقها واضطرارهم إلى مواصلة الحرب حتى طلقاتها الأخيرة، رغم أنهم يعرفون جيداً أنهم سيدفعون ثمناً سيبدو أمامه الثمن الذي دفعوه في “العالمية الثانية” زهيداً للغاية.

لكن هذه “الجريمة” ترفع أيضاً من “شهوة” دول أخرى، بعضها في منطقتنا، للاستثمار في سوق الغاز الأوروبي الكبرى و”العطشى” لأي قدر من الطاقة مع اقتراب فصل الشتاء، وهذا ما يعني حروباً تحت الطاولة وشراء مواقف دول وعرض أخرى للبيع واللعب بالتوازنات الداخلية وحتى الإقليمية في مناطق محدّدة، وفي هذا السياق، يندرج ما يبدو من مؤشرات توافق لبناني- “إسرائيلي” برعاية أمريكية على غاز المتوسط، وذلك ما سيكون له تبعات سياسية أيضاً.

عبرة الحرب الدائمة 

وبالطبع، فإن ذلك ليس جديداً على العالم، أو مستهجناً فيه، إلا من بعض الحالمين بانتشار “المحبة” و”السلام الدائم” أو بعض الواهمين بـ”نهاية التاريخ”، بل تلك هي الحالة الطبيعية للبشرية، فقد “كان تاريخ الشؤون الدولية طوال الخمسة قرون الماضية تاريخ حروب، أو على الأقل الاستعداد لحروب”، لذلك كان من حماقة بعض ساسة الدول أن يفترضوا أن الوضع سيبقى هكذا للأبد.

أولوية الاقتصاد 

بيد أن “عِبر” القرون الخمسة الماضية تخبرنا أيضاً أن “الأبد”، الذي سيتاح لنا أن نعيشه ونعرفه، سيكون لمن يملك قدرة اقتصادية أكبر وإمكانية إشعال الحروب والحرائق بعيداً عن أرضه، لذلك ستزداد في المرحلة المقبلة أهمية العقوبات الاقتصادية، أي الحرب بالدولار، وما دامت الحرب “فيه” فلن تخسر واشنطن. هزيمتها تبدأ حين تصبح الحرب “عليه” وضده، رغم صعوبة، بل شبه استحالة ذلك، وخاصة بالنسبة للصين، التي كانت تسبق في الأجندة الأمريكية روسيا، وبالتالي فإن تقدّم هذه الأخيرة لا يعني ضمان سلامتها، فواجب إضعافها وتوريطها في حرب تأخذ مواردها، البشرية والسياسية والاجتماعية، الموجّهة لخدمة الصعود الاقتصادي الهائل، نحو هاوية العسكرة والحروب، هو أمر مصيري لـ”روما العصور الجديدة”.

المشكلة، حتى الآن، في الحرب الروسية الأمريكية، وهي كذلك دون مواربة، أن موسكو تدفع التكاليف من جيبها وشعبها، بينما تدفع واشنطن من جيب وشعب الآخرين، ففي أوكرانيا مثلاً لم تخسر حتى الآن جندياً واحداً، وهذا عين ما تريده في “الفخ التايواني”، وهي بهذا تعالج أيضاً نتائج ما سمّاه بعض الخبراء “فيض الامتداد الإمبراطوري” التي تقول: إن مجموع المصالح الكونية للإمبراطورية أكبر من أن تستطيع الدفاع عنها من جيوب الآخرين، بل تدفعهم للدفاع عنها كما حالة أوروبا وخاصة بعد تدمير “نورد ستريم2”.

لكن الفارق اليوم أن المسألة -وخاصة بعد إعلان روسيا أن الهجوم على “الأراضي الجديدة” هو هجوم على التراب الوطني الروسي وبالتالي سيُواجه بكل الطرق الممكنة – وصلت إلى مرحلة استعصاء ربما لا يمكن حلّه إلا بالنووي، وهذا الأخير قد يحلّ كل شيء.