الأمن الثقافي العربي
د. خلف المفتاح
لاشك أن البناء الأساسي للإنسان هو البناء الفكري والثقافي، فإذا أردنا أن نضمن الاستقرار ونضمن المستقبل لهويتنا الثقافية والقومية لابد لنا من الاشتغال على المسألة الثقافية، فالشاغل الثقافي الذي يبدو عند البعض هامشيا هو في حقيقة الأمر عنصر استراتيجي للأمة كبقية الشواغل المهمة الأخرى كقضية الحرية والتنمية وغيرها، فنحن نبني عقولا ونبني مستقبلا أمنا مستداما عبر الفعل الثقافي المعرفي. ومن هنا تصبح مسألة الحديث عن الأمن الثقافي العربي قضية مهمة.. ومهمة جدا لأبناء الأمة، خاصة في ظل ما يواجه شعوب العالم من تحديات تفرضها العولمة بكل أشكالها وتجلياتها، ولاسيما العولمة الثقافية، وبعد ما سمي أيضا “الربيع العربي” وما تركه من ندوب وجروح عميقة على مستوى الدولة الوطنية والفكرة القومية على وجه العموم.
لقد خسرنا الكثير من المعارك الاقتصادية والسياسية بوصفنا عربا، ولكن الأخطر أن نخسر الهوية الوطنية ومن ثم الهوية القومية فأكبر خساراتنا أن نفقد أمننا الثقافي لهذا تبدو الحاجة ملحة للإضاءة على ثلاثة عناوين لولوج المفهوم، وهي:
1- محأولة تأصيل مفهوم الأمن الثقافي
2- الحاجة إلى الأمن الثقافي العربي
3- في المفهوم والمحتوى والآليات
ففي إطار تحديد المفهوم فهو مفهوم مركب يربط بين مسألتين: الأمن والثقافة اللذان يبدوان متعارضين من حيث الشكل إذ يعرف الأمن على أنه جملة الإجراءات التي يتخذها مجتمع ما لحفظ حقه في البقاء، ويعرف الأمن الثقافي بأنه التحرر من الخوف والتهديد وهو قدرة المجتمعات على بقاء كيانها المستقل وتماسكها الوظيفي ضد أشكال من التغيير يراها المجتمع مهددة له.
أما مفهوم الثقافة فهي تعرف على أنها نظام متكامل يشتمل على كل من المعرفة والفن والقانون والعادات والتقاليد والأخلاق وغيرها من الأمور التي يكتسبها الإنسان بوصفه أحد أفراد المجتمع، فالثقافة أساسا مكتسب اجتماعي يرثه الإنسان من جملة ما يرثه من عادات وتقاليد وعقائد، فهي وسيلة لتنظيم الأفراد لعاداتهم وقيمهم ومعتقداتهم ومعارفهم ما يؤدي إلى سلوك عام متشابه إضافة إلى أنها حصيلة ما يتعلمه الإنسان في حياته بوصفه عضوا في مجتمع، أي ما يمكن اختصاره بـ “التعلم الاجتماعي”.
أما الأمن الثقافي، وهو العنوان الأساسي الذي عنيناه، فهو – كما أسلفنا – مفهوم مركب من معنيين أخذا في الاعتبار أنه مفهوم حديث الولادة نشأ في تسعينيات القرن الماضي وارتبطت ولادته بمفهوم العولمة والغزو الثقافي ومحأولات مواجهة ذلك الغزو الذي يحأول أن يقضي على هذه الثقافات ويقوم بعملية حلول متدرج يقصيها ويفقد المجتمعات خصوصيتها وهويتها المشكلة لها، ما يعني تشكل العالم وفق تصور وحيد أو نسخ متعددة من تصور واحد منمط غربيا.
وبالعودة لولادة المصطلح، نرى أن مفهوم الأمن قد اتسع بعد توجه العالم للقطب الواحد مع نهاية الحرب الباردة، وأصبح الحديث عن أمن ثقافي وسياسي وفكري واقتصادي وغذائي مسألة واردة في كل أشكال الخطاب الذي تلا تلك الحقبة، ولعل ما نظّر له كل من الفيلسوفين الأمريكيين فرانسيس فوكوياما، الذي بشر بنهاية التاريخ ونجاح الأنموذج الأمريكي الليبرالي، وصموئيل هاتنغتون في أطروحة صراع الحضارات، حيث حأولا التبشير والتمهيد لتكريس نجاح الثقافة الغربية الأوروبية أونموذجها الليبرالي بمواجهة ثقافات الشعوب الأخرى، فالمفهوم ولد متزامنا مع ما طرحته فكرة العولمة بأشكالها المختلفة، علما أن العالم الغربي الذي اعتقد أنه سيكون الرابح من موضوعة العولمة اكتشف أنه قد يكون الخاسر فيها من خلال ظاهرة الهجرة والتمسك بالهوية عند المهاجرين وعدم انصهارهم في ثقافة الغرب أو تقبله لهم، كما حدث في فرنسا وبعض الدول الأوروبية، وكذلك ما سمي “الرهاب الإسلامي”، وكل هذه تعبر عن أزمة العالم الآخر في تزعزع ما يمكن تسميته أمنه الثقافي.
مما تقدم، يمكن تعريف الأمن الثقافي بأنه الحفاظ على الهوية الذاتية والهوية الثقافية في مواجهة محأولات الاحتواء والهيمنة على الشخصية الثقافية والحضارية للأمة، فالأمن الثقافي يكمن في الحفاظ على الهوية الثقافية والشخصية الثقافية للأمة، بينما يذهب مفكر عربي آخر، هو عبد الاله بلقزيز، إلى تعريف الأمن الثقافي العربي بأنه الإشباع الذاتي من الحاجات الثقافية للأمة وقدرتها على تأمين حاجتها على الإنتاج والتراكم ومغالبة الندرة والخصخصة ورفع خطر الخوف من العجز وفقدان القيم الثقافية والرمزية التي تجيب عن مطالب المجتمع والوجدان والذوق، فالأمن الثقافي – وفق التعريفين المشار اليهما – يرتكز على جملة من العناصر التي يمكن اختصارها بما يلي:
1- اللغة بوصفها تؤدي الدور الثقافي وخزان الأمة.
2-العقيدة بما هي نظام حياة.
3-التراث بوصفه تاريخ وذاكرة لأي مجتمع.
4- الانتماء والمواطنة بما هي جملة الحقوق والواجبات.
والسؤال الآن: لم الحاجة للأمن الثقافي العربي؟
إن معاينة الواقع العربي موضوعيا تجعلنا نتلمس إرهاصات أولى لانفراط في العقد الاجتماعي العربي، لا بل أكثر من ذلك أن العقد الاجتماعي الوطني لكل بلد عربي بدأ يواجه شكلا من أشكال التشظي والتفكك والتآكل، فثمة انكشاف للأمن الثقافي العربي واختراق له، وربما بدأ ذلك مع سبعينيات القرن الماضي مع الاختراقات الصهيونية للأمن القومي العربي عبر اتفاقيات وقعت معه تدخل في بعض اشتراطاتها عناصر وعناوين تدخل في البناء الثقافي والتربوي للأقطار التي دخلت خط التسويات السياسية، ثم تبعها احتلال الأمريكيين للعراق وغزوهم له وتدخلهم في صياغة دستوره، وتلا ذلك ما سمي “الربيع العربي” والفوضى التي سادت المنطقة العربية وما رافقها من استيقاظ للانتماءات والخرائط الضيقة والهويات ما تحت الوطنية وتراجع الهويتين الوطنية والقومية الجامعة، فمع انفراط الأمن الوطني أصبح الخوف من انفراط الأمن الثقافي أمرا واردا سيما وأن ثمة تخصيب للانتماءات المذهبية والعرقية بدا واضح الملامح والتأثير مع استدعاء هوياتي واستلاف كاذب ومضلل لتاريخ متخيل غير واقعي لجهة ضرب الجماعة الوطنية والهوية الجامعة.
لقد اعتقدنا لعقود من الزمن أن عناصر الهوية الوطنية قد استقرت وكذلك مفهوم المواطنة لتكون رافعة لبناء قومي شامل، وإذ بنا نواجه بتحدٍ يستهدف الهوية الوطنية ويسعى لتمزيقها بل ونفيها وتسفيهها، وترافق كل ذلك مع هجوم غير مسبوق على الهوية القومية والإدعاء بأنها حلم رومانسي لـ “القومجيين”، وقاد هذا الهجوم شعوبيون جدد تدعمهم وتغذيهم قوى خارجية حملت حقدا تاريخيا على فكرة العروبة.
وإذا وضعنا الاستهداف الهوياتي الذي أشرنا إليه جانباً فإننا نلاحظ ثمة تشوه ثقافي في بلداننا العربية إلى درجة أن بعض المفكرين العرب تحدثوا عن انتحار لغوي واستلاب يؤدي إلى ضرب حامل أساسي للفكرة القومية، وهو اللغة العربية، ولكن هذا لا يعني طبعا رفع وتيرة الرقابة على الثقافة وتطور اللغة ضمن قواعدها المعروفة والراسخة، ولكن للتحذير من عواقب الانقلاب على اللغة العربية. فإذا أردنا بناء منظومة أمن ثقافي عربي فلابد من وضع إطار مرجعي لذلك يؤطر تفكيرنا وخياراتنا الثقافية: لماذا نختار هذا وندع ذاك؟ لماذا ننفتح على هذا ونغلق مع ذاك؟ كل هذا يظهر الحاجة للإطار المرجعي الذي نحن بصدده لكي يسيج ويحصن خياراتنا، ولكن هذا لا يعني إغلاق كل النوافذ أو عدم التفاعل مع معطيات العصر والحضارة الإنسانية، فالأمن الثقافي لا يعني أن ننغلق على أنفسنا أو نرفض الآخر، بل العكس، فالانغلاق على الذات لا يحقق الأمن الثقافي، بل إن معرفة الآخر والانفتاح والتفاعل معه هو من عناصر تحقيق الأمن الثقافي، ولكن انطلاقا من استراتيجيتنا نحن، أي من تصورنا نحن العرب وحاجاتنا، وليس استجابة لرغبات الآخر، فنحن نبني استراتيجيتنا ونقدر مدى انفتاحنا على الآخر لنحافظ على هويتنا وشخصيتنا الثقافية.. الأمر الآخر اعتماد استراتيجية عربية مشتركة تكون إنتاجية وعقلانية، فلا يمكن أن نتحدث عن أمن ثقافي ونحن مستهلكين لثقافة الآخر وغير منتجين في حقل الابداع بكل صوره، فعلينا أن نوطن العقل المنتج لا المنتج ذاته.
إن الأمن الثقافي يستوجب تأمين وإنتاج وابداع الثقافة الصالحة للناس بحيث يعيشون حياتهم المعاصرة بشكل سليم وإيجابي، وهو يعني بناء ثقافة وجود ذاتي تستطيع وتقوى على الصمود والمواجهة، بل والمبادرة والمنافسة في سوق الثقافة العالمي والفعل المؤثر، أي الانطلاق من الدفاع إلى المبادرة والإنتاج الثقافي الذي يجعلنا نشارك الإنسانية في هذه الحضارة ونعتز بذاتنا الحضارية العربية والانفتاح والحوار مع الثقافات الأخرى من موقع الندية، وهذا يقتضي بناء خطة أمن ثقافي عربي فيها تعاون أفقي عربي اعتمادا على لغتنا العربية. وهنا تجدر الإشارة إلى مركزية ومحورية مناهج التربية والتعليم كرافعة أساسية والمدخل المناسب لذلك، فالمدرسة هي بيت الأمن الثقافي العربي والمدخل للتنشئة الاجتماعية السليمة. وحتى تتحقق التنمية التنمية المستدامة بالمفهوم السليم في الأوطان العربية، ثمة الكثير من مقومات التجديد الحضاري، وأعني بذلك الاتكاء على المورد الثقافي الذي يدفعنا إلى الإصرار على هذا الملمح والتشديد على مسألة البحث العلمي والابتكار والنتاجات العقلية وتطوير العلوم الإنسانية والتطبيقية وتجديد الخطاب الديني والفكري، وحث الحكومات العربية على تمكين الأفراد والجماعات في إطار الدولة الوطنية من وضع خطة وطنية قومية استراتيجية عبر المؤتمرات والندوات واستقطاب النخب المؤثرة الغيورة على مصلحة الأمة من محاولات الطمس والانسلاخ لجهة استعادة الشخصية الحضارية للأمة العربية والتفكير جليا في المقومات الحيوية التي تحقق لنا هوية وجودية في أمة قادرة على التفكير والإنتاج والإبداع والمنافسة وليس الاستهلاك والعيش متسولين أو أسواق استهلاك لمنتجات الغرب أو غيره.
ونختم بالقول إن كل هذه الامور تحفز البحث عن الذات الثقافية وإبراز مضامينها وتطلعاتها وتربية المواطن العربي في هديها وسياقها، وبهذا يمكننا الوصول إلى الحد الأدنى من الأمن الثقافي المطلوب في عصر التكنولوجيا والأقمار الصناعية وقوة المعرفة. ونود الاشارة في الختام إلى التفريق والفارق بين ألأمن الثقافي والثقافة الأمنية، مع أهمية أن يثقف المواطن أمنيا لكي يكون عينا تحرس الوطن لا عينا للخارج عليه.