الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ما.. لهذا العالم!

حسن حميد

 -1-

ما لنا، وما ذنبنا، وما الذي اقترفناه،

حتى نعاود في كلّ سنة، وفي كلّ يوم، وفي كلّ لحظة، وفي كلّ مناسبة، وفي كلّ الفصول، وفي كلّ الاجتماعات، وفي النوم والصحو، شرح ما حدث لشعبنا منذ قرن كامل، بل أزيد، وحتى هذه الساعة؟!

نحن لم نكن في يوم من الأيام أهل تقصير، أو أهل جفوة، أو أهل نسيان، أو أهل ضعف، فنحن من أنسن الجبال، والأودية حتى افتككنا منها مدنية تامة البنيان، والقداسة، والحضور، والمهابة، مدينة اسمها مدينة القدس! ونحن من لجم عربدة النهر الهابطة من أعالي الجبل الشيخ جهامة ورعباً حتى بحيرة لوط، فصار نهراً مقدساً تضاففه الأشجار النادرة بخضرتها البارقة، والقرى العزيزة بأهلها وحقولها، ونحن من عقلنا هدير البحر وأمواجه فجاورته مدننا وقرانا وبواخرنا، ونحن من وضع العلامات الرّاشدة في البحر والبر، ونحن من جعل الأرض سجادة للألوان، والفصول، وصفحات للتاريخ تنبت سطورها بالتعب الجميل، والعشق العنيد.

-2-

ما لنا، وما ذنبنا، وما الذي اقترفناه،

حتى نُعيد القراءة مرّة أخرى، ونُعيد الرواية مرّة أخرى، وبالطقوس ذاتها، والأسى ذاته، والأحزان كلّها، ثم، بعد هذا، نُلام لأنّ صوتنا مازال عالياً بوجه الظلموت، وثقتنا بعزومنا، وما أكثرها، لم تخدش، ومحبتنا للحواكير، والغدران، وأجمات القصب والبيوت في شبوب عنيف، نُلام لأننا كيفما تحدثنا، وكيفما تكلمنا، لا نتحدث ولا نتكلم إلا عن بلادنا التي سوّرها الدم من جميع الجهات، ولفّها القتل الغشوم من جميع الجهات، حتى صارت الأحزان طيوراً تمرّ بالبيوت وسائر الأمكنة  نُلام لأننا ما زلنا ننشد نشيد الأزل: بلادي..بلادي!

-٣-

ما لنا، وما ذنبنا، وما الذي اقترفناه،

لنكون أرض الديسوبيا الأخيرة في هذه الدنيا كي نعاني من ويلات الاحتلال، بعد أن كانت أرضنا أرض اليوتوبيا، أرض الزروع والأشجار والغزلان والفنون والكتب، والأدهى هو ما يُراد لنا، أن نقبل قسمة التفاحة بين اثنين، محتل ومحتَل  نصفها الأول للأول! نصفها الثاني للأول أيضاً، أي أن نقبل (عدالة) هذه القسمة، ونطوي تاريخ الأجداد، الذي كتبته العقول والأيدي والسنون وأفعال الحضارات تترى، وأن ننزح أو نهجّر أو نشرّد عن أرضنا التي نقينا تربتها من الأشواك ورجوم الحجارة، فزرعناها قمحاً وبرتقالاً وورداً، يوم كان الخلق يظنون أجمات الشوك بساتين وارفة، ثم الأدهى أيضاً هو أنهم يريدون لنا أن نتوب! فلا نروي، ولا نقصّ، ولا ننشد، ولا نعشق، ونحن من جُبلنا على الرواية والقصّ والنشيد وعشق العمران والمحبة للبشر والكتب والفنون !

-٤-

ما لنا، وما ذنبنا، وما الذي اقترفناه،

حتى يصير العالم أعمى ضريراً حين ينظر إلينا، وهو الذي وضع منصات الرؤية ليطلّ من فوقها على ما يحدث على الأرض، وهو الذي علّق منصات الرؤية في السماء ليرى مالا يراه البصر!

ما الذي يحدث، حتى يصير العالم أخرس بلا همهمة ولا تمتمة حين نجهر بآلامنا، وصراخ جروحنا، وفداحة مآسينا، وخراب حقولنا وبيوتنا ونفوسنا، ومالنا، حتى يصير العالم أطرش لا يسمع أبداً نحيب الأمهات أمام عتبات دور العبادة، والمدارس، والمشافي، والبيوت، فهل ما يحدث فوق أرضنا، في البيوت، والمدارس، والمشافي، ودور العبادة، والحقول، والدروب، وكلّه فاجع، وأليم، وكارثي، يحدث فوق منصة لمسرح في الطبيعة! وهل هو يحدث أمام عالم تبلّدت حواسه، وغارت مشاعره، وتهافت بريقه، وضاعت قيمه، وتاهت بوصلته؟! أم ماذا؟! وماذا ينتظر عالم مثل هذا العالم، غير ذلك الذي حدث لكاهن معبد )روبونا)، حين دخل المعبد، وجثا أمام من يعبده، وقال له: الدم غطّى كلّ شيء، والحزن عمّ كل شيء، فالمطر المطر! لكن من يعبده كان حجراً له عيون كثيرة مفتّحة، وآذان كثيرة مفتّحة، وأفواه كثيرة مفتّحة، وحين أكثر من الحضور أمامه، ولم يستجب، تناول معول المعبد، وقطع أول ما قطع، العيون والآذان والأفواه المفتّحة، ثم استدار!

Hasanhamid55@yahoo.com