دراساتصحيفة البعث

ديفيد كاي.. الشاهد الذي دفع الثمن

هيفاء علي

جلس ديفيد كاي بمفرده على طاولة مصقولة جيداً في غرفة جلسات لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، واعترف علناً بما لم يقله أي مسؤول أمريكي من قبل، بأن أمريكا شنت الحرب على العراق بناءً على معلومات استخبارية كاذبة.

وعند الادلاء قال كاي: “اسمح لي أن أبدأ بالقول إننا جميعاً مخطئون وأنا بالتأكيد أحسب نفسي بينهم، قبل الحرب، في رأيي أفضل دليل رأيته هو أن العراق كان يمتلك بالفعل أسلحة دمار شامل، ولكن فيما بعد اتضح أننا جميعاً كنا مخطئين”.  وهكذا، كان ذلك الهدوء المتواضع في تكساس يتحدى بشكل مباشر ادعاءات الرئيس جورج دبليو بوش بأن ترسانات صدام حسين الهائلة من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية وربما النووية تشكل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة ودولها.

لم يسبق وأن اعترف أحد في البيت الأبيض، ولا في مجتمع المخابرات الأمريكية، بحدوث أخطاء في العراق، ولكن هذه الشهادة المستندة إلى عمله كرئيس لمجموعة مسح العراق التي تديرها وكالة المخابرات المركزية، جعلته منبوذاً في واشنطن، ولم تغفر له وكالة المخابرات المركزية ولا البيت الأبيض مطلقاً على نشره هذا الاعتراف علناً. بعد ذلك، اختفى كاي لفترة طويلة لدرجة أن المؤسسات الإخبارية استغرقت أكثر من أسبوع للإبلاغ عن وفاته في 13 آب عن عمر يناهز 82 عاماً، بسبب اصابته بمرض السرطان. وها هو بوب دروجين، مراسل ومحرر سابق في صحيفة “لوس انجلوس تايمز” يتحدث عن ديفيد كاي الذي وصفه بأنه بطل، وكان يستحق أكثر من الخزي الذي تحمله لأنه أعلن الحقيقة، حيث فقد كل أعماله في واشنطن، بينما باتت حال أولئك المسؤولين بشكل مباشر عن مأساة الولايات المتحدة في العراق أفضل بكثير. فقد حصل جورج تينيت، الذي قاد وكالة المخابرات المركزية خلال هجمات الحادي عشر من ايلول، وحشد الحرب على العراق -وهي أسوأ إخفاقات استخباراتية في تاريخ وكالة المخابرات المركزية – على وسام الحرية الرئاسي. أما بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع الأسبق، والمتشدد فيما يتعلق بالعراق، فقد استمر في إدارة البنك الدولي حتى صدمته الفضيحة، في حين انتقل المحافظون الجدد الآخرون الذين شجعوا الحرب إلى مناصب عليا.

كان كاي، عام 1991، يقود إحدى فرق الأمم المتحدة المكلفة بالبحث عن أسلحة نووية أو بيولوجية أو كيميائية في العراق. وبعد الفشل في العثور على أسلحة دمار شامل أو برامج لإنتاجها، أمر بوش وكالة المخابرات المركزية باستئناف البحث. وسرعان ما عيّن تينيت كاي. وعلى مدى الأشهر القليلة التالية، حقق كاي وفريقه من العلماء والجنود والجواسيس في بغداد في مزاعم الأسلحة غير التقليدية المزعومة ليكتشفوا أن “الاستخبارات” كانت في الواقع مبنية على التخمينات والاستنتاجات، وليس على الحقائق. لقد شعر بالذهول عندما أدرك أن الولايات المتحدة دخلت الحرب بناءً على أخطاء في التقدير والأكاذيب الصريحة، حيث شكّل الخطاب الشهير الذي ألقاه كولين باول، وزير الخارجية آنذاك، أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لحظة محورية في تقويض مصداقية الولايات المتحدة على المسرح العالمي، ويرجع ذلك إلى الإصرار المتكرر لوزير الخارجية آنذاك على أن مزاعمه صحيحة.

عاد كاي إلى واشنطن لمواجهة تينيت وآخرين بالحقيقة الصعبة، وخلال زياراته السابقة لمقر وكالة المخابرات المركزية، حصل على مكتب في الطابق السابع، أسفل القاعة حيث كان تينيت، وتم نفيه إلى جناح تحت الإنشاء، حيث كان مكتبه بلا نوافذ ولا يحتوي على كمبيوتر أو هاتف آمن.

بعد شهر، استقال بعدما عرضت عليه وكالة المخابرات المركزية البقاء في فريق العمل كمستشار كبير، حيث كانت تحاول شراء صمته، ووصفته بالخائن بعدما أعلن عن شهادته، لأنه “أهان وكالة المخابرات المركزية” عندما قال الحقيقة ودفع الثمن غالياً.