خانات دمشق كانت المأوى الأمين للقوافل والمسافرين
فيصل خرتش
اشتهرت دمشق بنشاطها الدولي والمحلي، بسبب موقعها الجغرافي المتميز على طريق القوافل التجارية وقوافل الحجاج، فاقتضى ذلك إقامة المنازل للمسافرين والرواحل التي لهم، وإقامة المنشآت للتبادل التجاري وقوافل السلع للتصدير والاستيراد، فأقيمت لذلك المنشآت داخل المدينة وخارجها وعلى الطرقات العامة الموصلة إليها، فكان منها الخانات والفنادق والقيساريات والوكالات وغيرها، ولم تكن تلك التسميات عربية بل تعود إلى أصول مختلفة.
وكلمة خان تعني القصر أو البيت، وهي مخصصة لنزول القوافل ولممارسة النشاطات التجارية والصناعية منذ القرن السادس للهجرة، ويعتبر بعضهم أن الوكالة والخان والقيسارية اسم لمسمَى واحد. وكانت تلك المنشآت متداخلة الاختصاص ومختلفة الأماكن والمساحات التي بنيت عليها، إلا أنها متشابهة في هندستها، وقام ببنائها الخاصة والعامة والسلاطين ونوابهم وولاتهم والتجار الأثرياء وأهل الخير، وحبسوا لها الأوقاف لصيانتها وللصرف من ريعها على وجوه الخير. ومن جهة أخرى، لم تفقد الخانات أهميتها، بل ازدادت نظراَ لفقدان الأمن على تلك الطرقات، فكانت المأوى الأمين للقوافل والمسافرين، ولقد بنيت من الحجارة لتقوى على الزمن واللصوص، فهناك خان حسية وخان البريج وخان النبك وخان السلطان في شمال القطيفة، ثمَ خان العصافير شمال قرية عدرا ثمَ خان دوما، وهناك خانات أخرى تقام على طرقات دمشق من ناحية الغرب والجنوب، كخان الشيح وخان سعسع وخان أرنبة وخان جسر بنات يعقوب، ووجدت خانات عديدة على طريق دمشق صيدا، أما هندسة هذه الخانات فتكون على شكل مستطيل أو مربع، له باب خارجي عال يسمح بدخول الرواحل إلى الساحة الداخلية، والتي هي عبارة عن فسحة سماوية بها بئر لسد حاجة المسافرين إليه، ويقفل الباب لحماية المسافرين والبضائع بواسطة الحراس، وكان لهم غرف خاصة بهم، وبنيت غرف فوق الباب للمراقبة، وكانت غرف الخان تحيط بالساحة الداخلية وينزل فيها المسافرون خاصة في فترات اضطراب الأمن، ووجد في داخل الخان مسجد للصلاة، وكانت جدرانه الخارجية مرتفعة وخالية من الشبابيك، وعندما ينام المسافرون فيه، كان عليهم أن يدفعوا رسماَ معيناَ للخانجية، وكانوا يؤمنون طعامهم و فرش النوم والنار والإضاءة والعلف للرواحل بوسائلهم الخاصة.
أقيم في بعض هذه الخانات زوايا للفقراء يأوون إليها، ويقدم إليهم الطعام من الأوقاف التي حبست لهذا الغرض، وقد قام الوزراء بحبس العديد من العقارات لهذا الغرض خدمة منهم لقوافل الحجاج الذاهبة والآيبة من الديار المقدسة، فخان عياش الواقع على طريق حلب دمشق كان فيه مسجد ومورد ماء وحانوتان، وحبست عليه أوقاف كثيرة لتقديم الحصر والزيت والحبال والدلاء ورواتب للإمام والمؤذن والبواب.
وأما الخانات التي وجدت في قرى دمشق وأرباضها فلم تختلف في مهامها عما كانت عليه داخل المدينة، إلا من حيث فخامة بنائها، واستخدم هذا النوع من الخانات لإيواء المكارين والغرباء والفقراء والرواحل، وأشهرها ما كان في سوق الخيل والعمارة وباب مصلى والشاغور البراني والمصلبية، والنازل فيها يدفع خمسة عشر قرشاً في الشهر للغرفة، ووجدت بعض هذه الخانات لإيواء رواحل أبناء الريف وبعض الغرباء، واستخدموها لوضع الحمير التي يؤجرونها، من أجل السعي في أسواق المدينة أو للتنزه في البساتين والقرى، وصبغت أذناب الحمير بلون خاص وبقي ذلك حتى مطلع القرن العشرين.
أما النوع الثالث من الخانات فهي التي كانت تقع ضمن أسوار المدينة، وكان منها الصغير والكبير، وأكثرها تعود إلى العهد العثماني، ومعظمها كان موزعاً في سوق البزورية والحرير والقلبقجية والخياطين وسوق الطويل، وكانت الشوارع التي تقع فيها، تسمح بمرور الجمال وهي محملة، وحتى أبوابها كانت تسمح بذلك أيضاَ، وقد تعددت اختصاصاتها، فكانت للتجارة الخارجية والداخلية، ومأوى للتجار الغرباء والمسافرين، ومخازن لبضائعهم وملتقى أبناء الأقطار العربية، ولبعض أصناف الجند، وحتى لبنات الهوى.
ويصف لامارتين، ا لذي زار دمشق سنة 1833، جانباً من النشاط التجاري والاجتماعي في الخانات، فيقول:” إنَ التاجر المرموق كان يستأجر غرفة علويَة، ويضع فيها بضاعته الثمينة وكتبه، وخصصت الغرف السفلية لاستخدامها كمستودعات لبضائعهم، أما التجار المحليون فكانوا يجلسون لغرض التجارة من الصباح وحتى الغروب فيها”. ويقول بورتر، الذي عاش في دمشق في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر: “كان المرء يشاهد التجار مستلقين على الدرج أو بجانب مخازنهم يدخنون الأراكيل أو جوبقات التُتُن أو يتسكعون في الأروقة من أجل إتمام الصفقات التجارية أو للتعامل مع الجمارك، والقهوجي في حركة دائمة يحمل سماوره النحاسي وقدره المعدني وفناجينه الصغيرة ليقدم للناس القهوة، وهناك حاملو الغلايين الذين يقومون بتنظيفها وبتنظيف الأراكيل وتحضير التنباك للمدخنين”.. “وكان المرء يرى فيها بائع الشراب يملأ جرته ويثبتها بحزام إلى وسطه وعنقه ويقوم بقرع الصحاف المعدنية لتنبيه الراغبين في الشراب، وهناك الحمالون الذين ينقلون البضائع على ظهورهم، وقد يستخدمون العربات الصغيرة من أجل ذلك، و الأوضة باشي الذي يقيم بشكل دائم في الخان، وله غرفة خاصة بالقرب من الباب الرئيسي، وهو يحوز على ثقة الجميع، ويقفل الباب مع الغروب وربما يفتح الخوخة (باب صغير ضمن الباب الكبير) وكان يساعده بعض مرؤوسيه”.
وكان التخصيص واضحاً في الخانات، فمنها ما كان يعنى بحرفة معينة كنسج الحرير والآلاجة، ومنها ما كان للفتالين (وهي حرفة ملحقة بصناعة النسيج وبها دواليب للف الخيوط)، وأقيم في بعضها مجارف يدوية للمخمل الممتاز المطرز والأطلس والبروكار والدمقس والكمخا وأصناف أخرى من النسيج ذي اللون الواحد والمخطط والمموَج والمناديل الحريرية والأقمشة القطنية وأصناف أخرى من الأقمشة.
وتفردت بعض خانات دمشق بنزول أبناء مقاطعات محددة، كخان سليمان باشا العظم الذي دعي بخان الحماصنة لأن تجار حمص كانوا ينزلون فيه، وكان بعضها ملقى لطائفة محددة من الجند كخان اللاوند والأكراد، وأطلق على أحد الخانات اسم خان الدالاتية، وكان ملقى المغاربة في دمشق، ثمَ خان الشهابي الذي كان في سوق الأقصاب وهو معد للقفول الحلبية، ووجدت خانات مخصصة لنزول الغرباء في دمشق من الأجانب والمسافرين، ويقومون بطبخ طعامهم فيها، وهناك خانات للقهوة وبيعها وهي ملتقى لفئات من المجتمع الدمشقي للتسلية والاستماع إلى الحكايات ورؤية خيال الظل واللعب بالداما والشطرنج وغيرها.
كما كانت بعض الخانات ملتقى لبنات الهوى والجند، وهكذا نرى أن الخانات لم تكن لها مهمة اقتصادية فحسب، بل كانت مهمتها الاجتماعية أكبر وأعظم، فهي ملتقى الغرباء والأصدقاء يجري فيها التعارف وعقد الصفقات والتسلية وممارسة الحرفة ومبيت الغرباء ومأوى الرواحل، وسميت بعض الخانات بنوع السلعة التي تباع فيها أو الحرفة التي تمارس فيها مثل خان الحرير والزيت والجبن والرز والدبس والجمرك، وخان الجوخية لبيع الجوخ وخان الخياطين، وخان الدكة المخصص لبيع الجواري والرقيق.