أمريكا تمضي بعيداً في تضخيم نظرية “التهديد الصيني”
ترجمة: هناء شروف
الحكمة الاستراتيجية والرؤية بعيدة النظر ضرورية لنزع فتيل التوترات بين الصين والولايات المتحدة، فمع التحول في سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين، واستمرار التوتر الروسي الأوكراني، يمر العالم بتغييرات كبيرة في العلاقات بين القوى الكبرى، بل يشهد تغيرات عميقة تتجلى في المشهد الدولي في أربعة جوانب:
أولاً: في حقبة ما بعد الحرب الباردة، هل سيرى العالم أن عملية العولمة تتعطل وتعود المواجهات بين الدول الكبرى؟ صحيح أنه يتم تحديد العلاقات بين الدول الكبرى من خلال الصراع والتعاون، لكن السؤال هو: هل الصراع أو التعاون هو الأبرز؟ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، استمر التقارب الصيني الأمريكي، ما يدل على أن جوهر العلاقات بين الدول الكبرى في عصر العولمة قد بدأ في الابتعاد عما يسمى بـ “المواجهة”. ومع ذلك تعود المواجهة اليوم مع تصعيد الولايات المتحدة لمنافستها الجيوسياسية مع الصين على جبهات متعددة، بما في ذلك التكنولوجيا والتجارة والاقتصاد والإعلام، وبذلك إلى المواجهة الاستراتيجية ما يعني أن العالم سيواجه حرباً باردة أخرى.
ثانياً: هل سيشهد العالم موجة جديدة من المواجهة بين الدول الكبرى؟ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تميز النظام السياسي العالمي بالانقسام الجيوسياسي بين كتلتين تشكلتا حول القوتين العظميين والمواجهة الأيديولوجية واسعة النطاق. وبما أن الحرب الباردة الجديدة تلوح في الأفق بشكل كبير، فهل ستكون هناك عودة للمواجهة الجيوسياسية والانقسام بين الشرق والغرب؟ اليوم دخلت السياسة العالمية لحظة قلق قد تؤدي فيها المواجهة بين القوى الكبرى إلى مواجهة جديدة بين معسكرين.
ثالثاً: يمكن أن يؤدي الاعتماد المتبادل إلى تقليل المنافسة الأمنية بين الدول، ويمكن أن يؤدي الاتصال والتبادلات السياسية والاجتماعية الأوثق إلى تخفيف حدة الصراع بين الدول الكبرى. في حقبة ما بعد الحرب الباردة أصبحت الصين والولايات المتحدة مترابطتين بدرجة غير مسبوقة. وعلى الرغم من الترابط العميق والواسع بين البلدين، تسعى الولايات المتحدة منذ إدارة دونالد ترامب إلى احتواء الصين. ومن خلال تعريف الصين على أنها “منافس استراتيجي”، وضعت الولايات المتحدة مرة أخرى هيمنتها على التعاون الاقتصادي والاجتماعي، ما سيجر العالم مرة أخرى إلى عصر الواقعية السياسية الذي وضع نهاية للنظرية التقليدية النيوليبرالية.
رابعاً: تم إحياء المواجهة الأيديولوجية بين الدول الكبرى، حيث تم اختيار الأيديولوجيات من قبل الدول وفقاً لقيمها السياسية الخاصة، والتي تمثل الأنظمة السياسية والاجتماعية التي يختارها شعب الدولة. وفي عصر العولمة سهلت التبادلات بين الشعوب التواصل بين الأفكار والقيم المختلفة، ما أدى إلى رفع مستوى فهم طرق الإنتاج والحياة لدى الشعوب الأخرى إلى مستوى غير مسبوق. وحتى قبل خمسين عاماً، قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بزيارة الصين لكسر العداء بين البلدين، ومنذ ذلك شهدنا تحولاً في القوة العالمية، ونمواً هائلاً في الثروة العالمية والزخم المتراكم للثورة الرقمية.
سيكون التغيير النوعي في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة أكبر ضغط خارجي، وسيخلق أكبر التحديات لصعود الصين في العقود القادمة، ولكن مع خوض البلدين حربا كلامية متصاعدة، في الدبلوماسية والرأي العام، من المستحيل أن تعود العلاقات الثنائية إلى الأيام الخوالي.
في القرون الخمسة التي انقضت منذ عصر الاكتشافات الجغرافيية، كان هناك ما لا يقل عن 16 حالة تاريخية لقوة ناشئة تنافس السلطة الحاكمة من بينها ما يزيد عن 80 في المائة انتهت بالحرب، وفشلت أكثر من 90 في المائة من القوى الناشئة في إزاحة القوى العظمى القائمة، وذلك لأن التنافس على السلطة – المنطق الأساسي الذي يحكم العلاقات الدولية – غالباً ما يكون غير قابل للتوفيق.
لقد أثبت تاريخ العلاقات الدولية أن ما يغذي المنافسة بين الدول الكبرى ليس فقط التنافس على السلطة، ولكن أيضاً التطرف السياسي الداخلي. وتضيف الانقسامات السياسية والاجتماعية في الولايات المتحدة الوقود إلى نيران موقف المواجهة الأمريكي تجاه الصين.
توصل السياسيون الأمريكيون من مختلف الأطياف السياسية إلى إجماع حول تصوير الصين على أنها “أكبر تهديد” للولايات المتحدة لتحويل الانتباه عن الاضطرابات والأزمات الداخلية. وفي الوقت نفسه قاموا بتضخيم نظرية “التهديد الصيني” لتعزيز التماسك السياسي والاجتماعي في الداخل، حيث وعدت إدارة بايدن بإتباع سياسة خارجية من شأنها أن تساعد الطبقة الوسطى، عبر الضغط، من أجل إعادة التصنيع، وإعادة الاستثمار في قطاع التكنولوجيا الفائقة في الولايات المتحدة.
من هنا، تشهد العلاقات بين الدول الكبرى اليوم تغيرات عميقة، ويمر العالم مرة أخرى بمنعطف حرج، نظراً لأن الولايات المتحدة قد صنفت الصين باعتبارها أكبر منافس استراتيجي لها، لذا يجب على صانعي السياسة والعلماء الصينيين إجراء تقييم شامل للمخاطر الاستراتيجية التي تنطوي عليها المنافسة الصينية الأمريكية، والبحث عن حلول من خلال التحليل المتعمق لتوجيه مسعى البلاد نحو التجديد الوطني في المسار الصحيح.