مجلة البعث الأسبوعية

إعادة إنتاج المعرفة الفنية

البعث الأسبوعية – رائد خليل

نستطيع أنّ نجزم أنّ مفردات التجريب الفني ومدلولاته، ماهي إلا حصيلة لحالات منطقية تعطي أحاسيس الإنسان وانفعالاته في رصده  للمشاهدات وسبر أغوارها جرعة إضافية، لا بل مواجهة حقيقية مع المستحيل واقتحام حدوده.
إذاً هو التجريب، الذي يراه بعضهم ضرباً من المغامرة وجنوحاً ما بعده جنوح بهدف التخريب!
وهنا من حقنا أن نتساءل عن ماهية التجريب الفني الذي أراه تحليقاً في فضاء المخيلة، وتطويعاً للمفردات الحسيّة المتناثرة فوق سطوح المعرفة والدراية والإدراك بكل إحداثياته.
فالمعارف الفنية قد أنتجت التميز والأسلوب بعد صراع حقيقي مع الذات للحفاظ على الثوابت بمختلف ألوانها.
والتجريب، يحثُّ على المغامرة وبناء عوالم العدول عن السائد، ويدعو إلى التمرُّد على النمطية المملّة والتطابق الشكلي وصولاً إلى التمايز على مبدأ “إبداع أفضل مما كان”، على حد تعبير أبي نواس، أو ضمن شعار الدادائية التي ترفض تحنيط العمل الفني.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ بعضهم بنى فضاءً خاصاً يندرج في إطار التجريب الحداثوي الذي يحترم عقل القارئ ويدغدغ مشاعره، ويعزف مقامات وصفية تستمد مقوماتها من ذاكرة المكان وعناصره في تزاوج واضح ما بين الأصيل وروح الخلق.
طبعاً هذا لا ينفي وجود أشخاص أدخلوا المتابع للحركة الفنية في سراديب الـتأويل والتعجيز، وألبسوا العمل الفني قالباً جامداً ساكناً بحجة الوصول إلى مظهر آخر دون دراية تذكر.
ولكن التجريب الفني الحداثوي تحول في أيامنا بحسب مجلة (الرافد) الإماراتية إلى ضرب من التجديف المخلّ، تحت مسمّى الإثارة والحداثة. فقد جاء فيها أن التجريبية لم تعد قائمة على امتلاك فيوضات معرفية وممارسية في النوع الفني المحدد، بل أصبحت غواية اعتيادية تستجدي استكتاب النقد الانطباعي تارة، وإرضاء الدوائر المتاجرة بالفن تارة أخرى، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى أن يدفع الفن الثمن الباهظ لهذا النوع من الأفعال المتساهلة التي تنم عن مشكلة حقيقية في الأدب والفن.
وللمرة الثانية نعود لنسأل عن الممارسة الجدية في إعادة إنتاج المعرفة الفنية ومدى المراهنة على نجاحها؟
ومما لا ريب فيه، أنّ بعض أعمال الفنانين تحفل بحسّها التجريبي والابتكاري بطرح الممكن والخروج عن المألوف في مقامات بصرية متناسلة من نبضات التفكير، وباستعانة واضحة بالحواس والطاقة.
إذاً، نطرح سؤالا آخر: هل يشكّل التجريب الفني خطورة وإشكالية، كما يقول بعضهم؟ وهل هو هدم لثوابت الأبنية البصرية؟
إن الاشتغال على مفارق الحداثة وتحديد الصائب منها، يعد مكمنا من مكامن التجريب، لا كما يشاع انفعالياً تورط في قلب المفاهيم.
انتقاد اللحظة والاغتراب المبني على التعكير للدلالة على البعد والحالة الماروايئة واستقراء الممكن دلائل على تكريس الإبهام.
العامل الجمالي كقيمة مطلقة تأتي بالتلازم مع السمات الوظيفية وهما شرطان يدعوان للتساؤل المشروع عن ماهية الخيارات وطرحها في متون اللحظة وتأثرها المجدي على  مكمن الأحاسيس..!

علم وفن..

قال حكيم: فضل المعرفة، معرفة الرجل نفسه.. وأفضل العلم، وقوف المرء عند علمه.
ربما يحتاج الفصل ما بين العلم والفن إلى حالات استدلالية  في علاقتهما.
وهنا، تبقى الرؤية الفنية حلقة وصل بينهما، فالعلم يستند أساساً إلى رؤية فنية ينتقل بعدها إلى حالة التجريب بأدوات تفضي إلى النتيجة.

ولكن ماذا يريد الفن؟

فالخطوط أو الاتجاهات تأخذ أشكالاً متعددة في اختراق الظلام، وهذه ظاهرة توليفية، وعزف على إيقاع العواطف والانطباعات.
فرسالتا الفن والعلم تقفان على ناصية واحدة، ولكن تبقى مهمة الفن استفزازية في محاولة إيقاظ المخيلة على رؤى وأحلام، أما غاية العلم، فهي محاولة توليف الإيقاظ ضمن محددات عملية مترجمة إلى نصوص تختزل كل الأشكال وإعادة تخصيبها.
إذاً توليف الإيقاظ، واستفزاز عقلي، وتخصيب الأشكال، مفردات تنقلنا إلى الحديث عن الاستكشاف المعرفي والاختراق الفني وتطرح سؤالاً مشروعاً في تمايزهما ودرجة التأثير في مسيرة الحياة البشرية والتطور الإنساني.
ربما ذهب بعضهم في توصيف ذلك بالقول: إنّ جوهر العلم هو آخر فصول التاريخ البشري.
ولكن، يحقّ لنا أن نقول: إنّ جميع العناصر والمحددات التي تشكّل تكوين العمل الفني، تنبع أصلاً من وعي الإنسان وإدراكه. فيجد الفن مناخاً على بساط المعرفة لتسليط الضوء على منابع الالتقاء والتباين في تفاصيل يتعامل معها بلغة  التفاعل الخلاق، واستكشاف أغوار النفس البشرية.
وهنا، يقول لك بعض أهل المعرفة والعلم: لقد حان الوقت للاستعانة بالفن كقيمة لا غنى عنها.
فتولستوي، يرى في مفهوم الفنّ نشاطاً إبداعياً يسمح بنقل تجارب الآخرين عبر لغة العواطف في مخاطبة الوجدان الإنساني بأدوات تعكس الفكر السائد ووسائل تتناسب مع روح العصر.
ويبقى مفهوم الفن تنموياً ومتكئاً على البصر والبصيرة، ومهمة ليست سهلة في تهذيب فكر الإنسان.

فن.. حلم.. رؤية..كبرياء

وقف إمبراطور ذات مرة أمام فيلسوف يجلس فوق وعاء أشبه بصندوق قمامة في الشارع، فلما رآه الفيلسوف، قال له بنبرة حادة: أريدك أن تذهب من أمامي أيها الإمبراطور لأنك تحجب ضوء الشمس عني.
وثمة مفردات يرتبط بها الحسّ بنوافذ الأفق المتناثرة في  كل زاوية واتجاه، نوافذ مفتوحة على  مصاريعها  في أسوار مفتوحة على مقامات التخيّل وتجلياته.
إذن هو الحلم، حالات وصفية لأفكار مشتهاة، وإيقاعات ملونة ومنسوجة في عناق حميمي متوالد من رحم الخلق والإبداع.

كثيرة هي الرسوم التي تفيض بالرؤى التي تُدخل المتأمل فيها إلى واحات بصرية ومساحات التذوق الجمالي ليتنقل ما بين مفاتن التصوير ونوافذ الحلم في تراتيل فنية متجانسة ومتآلفة مع أبعد نقطة في فضاء التأمل.
حلم مفتوح على تأويلات مزركشة وتداعيات فسيفسائية براقة.
إذاً لا أسوار للحلم ولا حدود له، ولكنّ بيكاسو حاول تكعيبه بخلق مفهوم وتحليل جديدين، إذ ترك للمتلقي أن يوجد الأشياء ضمن حيز شكلي واضح يكون ملتقى مركّزاً لمفرداته التشكيلية الجديدة.
ومهما حاولنا تجريد الحلم وتكعيبه، يبقى محملاً بأشكال التوصيف التعبيري وعاكساً لروح الفنان وصِيَغ اشتغاله الفكري المفتوح على الابتكار وطرح الممكن في مشروعية عناق المفردات والشخوص مع فضاء اللوحة.
ولهذا يبقى الحلم، وتبقى تطلعات الفنان وتخيلاته السرمدية تحاكي ما وراء الأفق في سريالية مشبعة بعشق الحياة وخطوطها ضمن مجاله الحيوي.
وهاهي ذي لوحة الحلم لبيكاسو التي رسم فيها عشيقته ماري تيريز والتر عام 1932 لاتزال تحمل مابين أسوارها كبرياء فنان وبوح رصين لتعابير منحازة لذاكرة المكان وتقاطعاته.
إذن، الحلم والكبرياء هما عنصران يرتبطان بالذات الفنية ارتباطاً لا يمكن فصلهما عن بعضهما. وهنا، أستحضر قصة بيكاسو عندما عاد إلى بيته ومعه صديقه، فوجدا الأثاث مبعثراً والأدراج محطمة، وجميع الدلائل تشير إلى أن اللصوص اقتحموا البيت وسرقوه، وعندما عرف بيكاسو ما سرقه اللصوص، ظهر عليه الضيق والغضب الشديدان. سأله صديقه: هل سرقوا شيئاً مهماً؟
أجاب بيكاسو: لا.. لم يسرقوا غير أغطية الفرش!
عاد الصديق وسأله في دهشة: إذاّ لماذا أنت غاضب؟
أحسّ بيكاسو أن كبرياءه قد جُرحت وقال: أنا غاضبٌ لأنّ هؤلاء اللصوص أغبياء وليسوا ذواقين، لماذا لم يسرقوا لوحة واحدة من أعمالي؟