مجلة البعث الأسبوعية

سخط أوروبي وغضب ودعوات للإضراب العام .. على الأوروبيين أن يستلهموا من دروس الانتفاضة الفلسطينية

البعث الاسبوعية-هيفاء علي

من المفروض أن يشعر الأوروبيون بآثار الحروب التي تخوضها حكوماتهم في مناطق عدة من العالم، وهم غير المعتدين على ذلك على رغم الدعاية التي تقوم بها جهات فاعلة في المجال السياسي والإعلامي الغربي لإقناع المواطنين بمزايا هذه الحروب.

الحديث هنا طبعاً عن الحرب الأوكرانية والدعم اللامتناهي بكافة أشكاله الذي تقدمه الحكومات الأوروبية والأمريكية لنظام كييف. لكن في هذه الأوقات المضطربة بالنسبة للأوروبيين الذين لم يعتادوا على ذلك، أصبح من الشائع قراءة أو سماع التعبير عن سخط وغضب من خلال الدعوة إلى العصيان المدني، والإضراب العام وحتى الدعوة الى الثورة.

قد يجادل البعض بأن “السترات الصفراء” أظهرت عكس ذلك، ولكن الأمر ليس كذلك، اذ لم تدم طويلاً هذه الحركة الجديرة بالثناء، والتي فاجأت الكثيرين، بل انتهت بالذبول في مواجهة الانتشار القاسي لقوى القمع التي وضعتها السلطات الفرنسية. وبحسب محللين أوروبيين، فإن التفكير في إمكانية قيام ثورة شعبية يحتاج الى توفر عدة عوامل، ولعل أحد أهم العوامل التي تسمح أو لا تسمح بنجاحها هو بلا شك التضامن، الذي تفتقر إليه بشدة المجتمعات الغربية الثرية. وبالتالي، لا توجد فرصة لحدوث ثورة في ظل هذه الظروف، حيث تعرض العالم لحالة من الشلل التام بعد تفشي جائحة كورونا، وما نتج عن اجراءات الحظر والإغلاق من ركود اقتصادي، وأزمة صحية حقيقية، ناهيك عن الافتقار السياسي الأوروبي لثقافة التضامن.

درس الانتفاضة الفلسطينية 

وها هو أحد المحللين الأوروبيين يحث المواطنين على التعلم من الانتفاضة الفلسطينية، مشيراً إلى وجود اختلاف بين المجتمعات الأوروبية والمجتمع الفرنسي، ولافتاً إلى أن المجتمع الفلسطيني يواجه احتلالاً عنصرياً لما يقرب من 75 عاماً، والجميع يرى المعتدي ويعرفه، على الرغم من محاولاته الوقحة لانتحال شخصية الضحية. ويذكر بأن القضية الفلسطينية العادلة عبرت الحدود والجبال والمحيطات، ولمست قلوب وعقول كل الأحرار في العالم. كما شدد على أن دمى وسائل الإعلام السياسية الغربية هي التي تغيب المشتركين، وتستمر في دعم حكومة إجرامية، ضاربة بعرض الحائط شعارهم الطنان حول “حقوق الإنسان”.

الهجمات لا تتم وجها لوجه مع وحشية جنود الاحتلال الإسرائيلي، وإنما يتم التخطيط لها من قبل الشركات متعددة الجنسيات المتداخلة، ومن قبل المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة. وكذلك من خلال الكشف المنهجي عن الإنجازات الاجتماعية التي مزقها كبار السن من النضال الطويل والتقويض المستمر للعمل الذي تنشط فيه اللوبيات لفرض عقودها ومعاييرها بالهدايا والمكافآت والوعود المختلفة لكل من يتمتع في أروقة أجهزة الدولة بالحق في اتخاذ القرار بنعم أو لا على العروض المقدمة.

وبحسب المحلل، فإن المشكلة الرئيسية التي واجهت الأمل في اندلاع ثورة السكان ضد أجهزة الدولة وبشكل أوسع، ضد السلطات السياسية الأوروبية، تم رصدها من خلال عدم قدرة السكان على الاتحاد والتوحد في النضال من أجل إسقاط هذا النظام الجائر. لقد أمضى العالم عامين قاسيين تحت التهديد الصحي لوباء كورونا، والتي قيل إنها كانت بمثابة تجربة في السلطة، ولا شك أن المواطنين الشجعان نقلوا أكاذيب حكوماتهم باقتناع، وعلى استعداد للتنديد بأي شخص لم يخضع لإجراءات الحجر والإغلاق حتى داخل أسرهم. هؤلاء الفاشيون الصغار هم سمّ خطير للتماسك والتضامن الذي يحتاجه المجتمع لكي يتحد، ولا يمكن توقع أي شيء من النقابات العمالية، حيث يأتي جزء كبير من تمويلها من اتحاد النقابات الأوروبية.

ومن ثم، بالنظر إلى هؤلاء الأوروبيين، فإنه لدى المرء انطباع بأن المواطنين الفاسدين، يسعون وراء الوهميات، وأفضل مثال على ذلك يتجلى عندما يقرر الموظفون المدنيون الذين يتقاضون رواتب إضافية بعد ساعات وأيام وأسابيع لا تحصى من الاجتماعات في غرف مكيفة اختيار “الشاحن الشامل” لأجهزة الكمبيوتر المحمولة. هذا الأمر يجب أن يكون مصدر قلق بالغ للعائلات التي ترى قوتها الشرائية تتدهور، وفواتيرها تنفجر، وتعليم أطفالها يتدهور مثل تدهور النظام الغذائي، وبدون معرفة كيف سيقضون الشتاء القادم في الجحيم من القيود التي تعدها لهم حكوماتهم العتيدة، وفي تنظيم مجتمع لا يتحمل فيه القادة الحقيقيون أبداً عواقب أفعالهم، باستثناء تصريحاتهم الديماغوجية المجانية، فلم يعد المواطنون يعرفون إلى من يلجأون، ولا من يخاطبونه للتعبير عن عدم رضاهم واستيائهم.

بشكل عام، يفلت المجتمع الفلسطيني من هذا التكنوقراط العقيم والمجتمع المدني حي ومليء بالحيوية والمبادرات، إذ بعد عدة محاولات فاشلة لتدميرها طوال عقود من قبل الاحتلال الصهيوني، نظم المجتمع الفلسطيني نفسه، من خلال شبكة من المنظمات غير الحكومية التي لا يتخيلها غالبية المواطنين الغربيين.

لقد نجح الفلسطينيون على جميع المستويات في إيجاد حلول للعديد من النواقص والصعوبات التي سببها هذا الاحتلال الاستعماري الذي يحاول حرمانهم من كل شيء. والمرأة لها مكانة بارزة في فلسطين المحتلة، حيث لا يضيع الفلسطينيون الوقت في الجدل حول قطعة من القماش على رؤوسهم أو الملابس المناسبة للسباحة أو مرافقتهم إلى الأنشطة المدرسية، بل إن همومهم في مكان آخر فيما هو من أساسيات الحياة وليس الاكسسوار.

وكما استلهمت المقاومة الفلسطينية من نموذج مقاومة الشعب الجزائري للاستعمار الفرنسي، حيث كان دور المرأة حاسماً في طرد فرنسا الاستعمارية خارج البلاد في ظل غياب الكثير من القتلى أو المسجونين والمعذبين من قبل المحتل الفرنسي، وكذلك دور المرأة الكبير في فيتنام ضد الأهوال التي ارتكبها الجيش الأمريكي.

وفي فرنسا، على مدار 40 عاماً، كان الفاشيون الصغار يسخرون في وسائل الإعلام متظاهرين بأنهم عصريون واسعو الأفق، مستخدمين الحجاب لإخفاء المشاكل الحقيقية للمجتمع، علماً أن عنصريتهم مفضوحة وتثير الغثيان. إنهم لا يفوتون فرصة للتخلص من كراهيتهم للآخر، ولا سيما المرأة التي يعلنون مع ذلك أنهم يريدون دعمها.

وقد تجلى ذلك في إيران حيث تعمل وكالة المخابرات المركزية وجهاز الموساد على زعزعة استقرار البلاد من خلال استغلال قضية حجاب المرأة الإيرانية، حيث اختارا التوقيت المناسب في لحظة التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، وفي الوقت الذي تحل فيه الطائرات الإيرانية بدون طيار محل تكنولوجيا الناتو في سورية، في العراق واليمن وأوكرانيا، الأمر الذي يثير استعداء النظام الصهيوني إلى حد كبير.

هؤلاء الأشخاص ومتابعوهم هنا هم محتالون محترفون يجب تبرئتهم مرة واحدة وإلى الأبد، والصراخ المثير للشفقة الصادر عن المغنيين والممثلات الذين قصّوا خصلة من الشعر هو تصرف منافق بشكل مقزز، فأين هم وأين أصواتهم عندما يتعلق الأمر بنساء فلسطينيات يطلق عليهن جنود الاحتلال الاسرائيلي الرصاص الحي في الشارع أمام أطفالهن أو محتجزات في سجون بائسة؟. وأين هم عندما يتركهن جيش الاحتلال يلدن بمفردهن وبدون مساعدة، عند نقطة تفتيش على وقع الضحك البغيض من قبل جنود الاحتلال المجرمين؟.

في فلسطين المحتلة، في أصغر قرية يغزوها ليلاً الجيش الصهيوني المجهّز أكثر من اللازم لاختطاف طفل يرشق الحجارة، يتفاعل السكان بالإجماع. إنهم يتوحدون وينظمون صفوفهم ليتجلى ذلك بشكل جماعي. وهم لا يخشون أن يواجهوا بوسائلهم الضئيلة الرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع التي يطلقها جيش الاحتلال الإسرائيلي.

لقد صعد الشعب الفلسطيني إلى الأمام وهو يحتج بصوت عال وواضح، ومستعد لقضاء شهور وأحياناً سنوات في السجن، إذا لزم الأمر. إنه مستعدة لأي تضحية مهما كان الثمن، بما في ذلك هدم سقف منزله، وكذلك الإضرابات عن الطعام حتى الموت. وقد حدث هذا وما زال يحدث، منذ ما يقرب من 75 عاماً، وبعد تعرضهم لعدد من الاغتيالات وجرائم الحرب وفقدان أبنائهم وذويهم جراء القصف والعدوان المتكرر على المناطق المحتلة من قبل قوات الاحتلال، مع صمت مطبق لوسائل الإعلام الغربية وخيانة بعض حكومات الدول الشقيقة.

هذا التضامن هو الذي يحاول العدو الصهيوني -بدعم من الدول الأوروبية الديمقراطية المزعومة- تحطيمه بكل الوسائل، ما يجعل فصائل المقاومة ضد بعضها البعض، حيث  لم تتوقف سلطات الاحتلال الاسرائيلي يوماً عن اللعب على هذا الوتر.

وعلى الرغم من وجود بعض المشاكل الحقيقية على مستوى الكوادر، إلا أن السكان لا يزالون متحدين في قتالهم ضد العدو المشترك لأكثر من سبعة عقود، أي ما يمثل ثلاثة أجيال.

وعليه، إذا بدأت الثورة أولاً في القلب وولدت الشجاعة التي تصرخ على الظلم، فهي مبنية ومنظمة في الرأس، لديها تقلباتها، لها مقاوماتها والمتعاونون معها، ولها أبطالها وخونتها.

إن الأمر يتطلب يقظة وحكمة، وبالطبع شجاعة معينة لكن دائماً، ما يكون تصميماً أصماً لا يمكن لأي شيء ولا أحد أن يقوضه. عندما يتذوق السكان الغربيون النقص والحرمان، وربما يصل البعض منهم إلى الحضيض، عندما يدركون أنهم محتلون ومستعبدون من قبل الأذرع المقنعة للتمويل الدولي التي قامت بتفكيك خلاياها العصبية، فربما سيفعلون ذلك وسيطلقون العنان لثورتهم ضد حكوماتهم الدمى، وضد تبعيتهم العمياء للأمريكان، لينتهي بهم الأمر بالحصول على الوضوح لتنظيم أنفسهم من أجل الإطاحة بنظام المافيا هذا الذي ابتليت به حياتهم، وصولاً إلى أصغر تفاصيل الحياة اليومية. عندها فقط سيكونون قادرين على التذكر وأخذ مثال من المقاومة الفلسطينية العظيمة، وعندها فقط سوف يكونون على استعداد لكل التضحيات مهما كان الثمن. فالشعب الفلسطيني قدم تضحيات جسيمة على مدى أكثر من سبعين عاماً، والشعب الجزائري أيضاً قدم تضحيات كبيرة في مواجهة الاستعمار الفرنسي. والجميع يعرفون التضحيات التي قدمها الشعب السوري إبان الاستعمار الفرنسي لنيل حريته واستقلاله، وكذلك تضحياته الثمينة في مواجهة أشرس حرب كونية، قادها الغرب ضد سورية لرفضها التبعية العمياء و الانصياع لإملاءاته.