“قمر وملح”.. منى عبد الكريم تعلن قيامتها الشعرية
تمّام بركات
الحياة العملية التي انخرطتْ فيها باكراً، وهي لم تكمل الـ ٢٥ ربيعاً، ثم الحياة العائلية والأبناء الذين أولتهم القسط الأكبر من حياتها، إضافة إلى رأيها الخاص بالشعر والنشر، لم تقف مجتمعةً كمعوقات أمام قرارها بإصدار نتاجها الأدبي المتنوّع بين القصة والرواية والشعر، بل كانت وما زالت انتصاراً لمهامها المقدسة، في الأمومة والعمل الشاق في سلك القضاء.
هذا النتاج الإبداعي المتأخّر بدأته بالقصيد منذ نعومة جدائلها، ففي التاسعة من عمرها بدأ الشعر يغازل أحلامها الطفولية، وعلى أوراق دفترها المدرسي كتبتْ أول قصيدة لها، لتكرج بعدها في ملاعب خيالها سبحة الشعر العفوي، الصادق، والمشغول بصنارات المشاعر النقيّة، وتلك هي أهم ميزات المجموعة الشعرية الأولى للشاعرة منى عبد الكريم، “قمر وملح”، الصادرة حديثاً عن دار بانوراما.. العفوية، البوح الداخلي المترقرق بين الصور والمعاني، الميل للوضوح على حساب “الغموض الكهنوتي للشعر” هي من سمات المجموعة، المنعكسة أساساً عن روح الشاعرة وجوانياتها، في قصائدها وتكوين عالمها الداخلي، سواء في تدشينه، أو في هدمه، إنها الروح ذاتها تهيمُ بين ما يشغفها، بحلوه وقسوته.
تقول في “إله الحقول”: “كيف لرمادية الغيوم الوصول/ وعيناك حراس دربي/ وكيف لشتائي أن يحزن/ وأنت ربيع كلّ الفصول/ وكيف لروحي عن العطر تسأل/ وأنت لقلبي إله الحقول؟”.
اقتنعتْ منى أخيراً أن ما باحت به للورق، تحت ضغط هائل من شعورها به وبحتمية تفريغه قبل أن تتشظى تحت وطأته، لا بدّ أن تضمّه بين جلدتي كتاب، وعن هذا تقول: “بقيت لمدة طويلة على يقين بكون الشعر ليس للنشر، فحالة النشر بحدّ ذاتها، تؤثر على الفعل الإبداعي وتصادر عفويته، لذا لم تكن هذه الخطوة بحسباني لسنين عدة، حتى وافقت تحت ضغط من العائلة والأصدقاء على النشر”. وتتابع: “تلك الأوقات التي تنفعل فيها القصيدة عن وجداني، هي لحظات خاصة جداً، ثمة علاقة جدلية بين المرأة والشعر، وهي علاقة خاصة أيضاً، لذا ربما تشعرُ بأن ملكية تلك القصائد من حقها فقط، ويبدو أن هذا الأمر يتغيّر مع الأيام”.
تميلُ الشاعرة لرأي “غوتة” في الشعر، كونه يصدر عن قوى لا واعية، لا شعورية، وعن هذا تقول: “عندما يداهمك الشعر، ما من قوة في العالم يمكن أن تحرّرك من سطوته، إلا أن تخفّف منها بالبوح، بالتعبير عما اعتراك، بكتابته وبتدفق لا واعي أحياناً لما تخطّ على الورق، لذا ستجد أن أوراقي في العمل، وقبلها في الجامعة، وقبلها دفاتري المدرسية، تحمل سطوة تلك اللحظات وما عبّرت عنها شعراً”.
تقول في “رسالة إلى إله الحرب”: “أبتهلُ إليك يا إلهاً من جحيم/ ارفع مخالبك عن عنق الياسمين/ وردة مصلوبة على أعتابها أنا/ هنا ولدت/ وهنا أحيا/ وأموت هنا”.
المجموعة الشعرية “قمر وملح” تقع في ٩٦ صفحة من القطع المتوسط، وتتضمن مجموعة من القصائد التي كُتبت في أوقات وتواريخ مختلفة، ومتباعدة، إلا أن هذا لم يؤثر على روح تلك القصائد، المصاغة بأسلوب هو أقرب للمدرسة الطبيعية في الأدب، مع لمسة أنثوية خاصة بالشاعرة، تركتها كعلامة مؤكدة على أنها تدلّ عليها، وعليها فقط، مهما تنوّعت ألحان المعنى وتباين إيحاء المفردات، التي يمكن وصفها بأنها حسّاسة، وليست هشّة، فهذه شخصية صاحبتها، وقد سالت حبراً واستحالت قصائد.
تقول في “صفقة أخرى”: “أبيعك نهاراتي/ شمس صباحي/ أبيعك انكساراتي/ أبيعك وهم فرح/ هبني وهم الأمل الآتي/ أبيعك حزن الخريف/ بكاء الرصيف/ أبيعك ألمي شجني/ وكل فرسان حكاياتي/ أبيعك وتري/ أهبك صوتي/ وتُكفن بصمتك أمسياتي”.
لا تعتني الشاعرة بالشكل، فهي مشغولة في الصياغات الداخلية للمعنى والدلالة والإيحاء، وعن هذا تقول: “لا أجد نفسي ملتزمة من الناحية الشعرية، وفق مذهب محدّد، اللحظة التي تمضي فيها أصابعي لترجمة ما يعصف ببالي، هي من تفرض الشكل، فتارة أكتبُ “العمودي” ومرات أُعبّرُ “نثراً” وأحياناً أجدُ “التفعيلة” ملاذي”.
تقول في “رابونزيل”: “رابونزيل لاتزال هناك تنتظر/ والضفائر الذهبية لوّنتها غيوم الشتاء/ والعيون الشغوفة أسكرها الحزن/ وأذبلتها دموع المساء/ رابونزيل قصي ضفائر شعرك الطويل/ ألم تدركي أن حصانه من وهم الفحولة/ وأن سيفه رماد/ وأن عهود الحب يقتلها البعاد؟”.
بقي أن نذكر أن قمر وملح، تم توقيعه في دار الأسد للفنون في ال 19 من الجاري.