الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

“خربة لاند”..؟!

د. نهلة عيسى

منذ شهور، كل يوم يوجّه لي السؤال نفسه من عدة أشخاص: إلى أين نحن ذاهبون، وهل في الأفق “حقاً” ثغرة لنور!؟ فيرتدي وجهي البلاهة جواباً، وأعيد السؤال للسائلين: هل سمعتم أن أحداً في بلادنا قد خرج علينا ليخبرنا ما الذي يجري فوق الطاولة، حتى تسألونني عما يجري تحتها أو خلفها أو من دون طاولة؟ يا سادتي أتحدّى أحداً في بلادنا ما لم يكن كاذباً، مدعياً، أن تكون لديه إجابة! نحن في “خربة لاند”، حيث لا حدود للرطانة والثرثرة التي لا تستند إلى واقع أو دليل، لأنها سرديات شهودها إما بشر بلا أسماء يسمونهم المدعوون “فوق”، أو أموات، فماذا نقول نحن الذين نعيش زمناً، أصبحت فيه السيارات في الطوابير أهم كاتبة قصصية وروائية في بلادنا، وبات الرغيف أمير شعراء الوطن، واسطوانة الغاز قائدة الأوركسترا الوطنية، وعودة الكهرباء أغنية رومانسية، والتصريحات الحكومية عارض يسبب داء “النقرزان”!!

ماذا نكتب نحن الذين تحوّل طلابنا إلى خصوم رأي ودم، قبل أن يتعلموا معنى الرأي وحرمة الدم، بل قبل أن يجيد أحدهم موضع الهمزة، ويتوقف عن استبدال القاف بها، وعن جرجرة سيبويه من قبره مذعوراً مقهوراً، وهو يستمع لقراءاتهم تعجن النحو والصرف في مقلاة الدلع والغنج واللامبالاة، فتصبح الصاد سيناً، ويصبح المرفوع مجروراً، والحرف المشبّه بالفعل فاعلاً، وحرف الوجوب، حرف امتناع، والمتنبي رجل أعمال، ماذا نكتب، والعلم بات كاليتيم على مائدة اللئيم، ولم يعد سلماً ولا كرسياً، ولا حتى موطئ قدم لراغب في الترقي على أي صعيد، لأن المال أصبح هوية ومكانة وقيمة ووجاهة ولو بمحو أمية، والواسطة صاروخاً عابراً للمناصب من أدنى إلى أعلى، بغض النظر عن العلم والكفاءة واللياقة والأحقية؟!.

ماذا نكتب لنعارض هيمنة “الله يفرج” على ألسنة الناس، بعد اليأس من الحلول البشرية، واليأس شبيه زرقاء اليمامة، أبصر في رماد الحرب، حرائق كراماتنا، ونعى في زمن الوفاء، الأوفياء، وحذر من زمن كتب الأرصفة، عناوينها: عذاب القبر، واستخراج الشياطين، وتحضير الأرواح، وفتاوى ابن تيمية، وهلاوس الوهابية، وتعلم الإنكليزية في خمسة أيام، وكيف تصبح مليونيراً، ودع القلق وابدأ بالسرقة، آه عفواً بالحياة؟!.

ماذا نكتب، وشاشات التلفاز التي يحتلها خبراء تزويق “المكنسة” وجعلها “ست النساء”، وشيوخ وملوك الطوائف والنافخون في رماد الجهالة، ومواقع التواصل الاجتماعي التي يتسيّدها الغوغاء والرعاع وصبيان أبو فلان وعلان، وعبيد الدولار، أصبحت هي المعلم والهادي والمرشد والقدوة، والبديل عن انتماء، الدفاع عنه يكلف الكثير، بينما العيش في قفطان معلمي العصر الحديث، يعد بالكثير لقاء أقل القليل، ماذا نكتب، وصورة المعلم (عدا معلم الدين) على شاشاتنا وفي مسلسلاتنا، إما فاسد أو ساذج أو أحمق أحادي الرؤية، والطالب المشاغب، الفوضوي، الفاشل، محبوب، مرغوب، دمه خفيف، وصاحب قضية؟!.

ماذا نكتب، بجد لا شيء لنكتب، وكل شيء لنخاف، نحن القابضون على الجمر، نرتق فتقاً، فترمي في وجهنا فضائيات الجهل ألف فتق وثقب، نرمم عقلاً، فيحاربه الناس بالسخرية والازدراء، نحتمي بالعلم، فنوصم بالتخلف، نمارس دور الناصح المتخصّص، فيطالبنا الجهلة وعديمو الموهبة، بعدم التدخل فيما لا يعيننا (على حدّ زعمهم ووهمهم)، فنصمت حيث لا رأي لمن لا يطاع، فنتهم بالجبن والتخاذل؟!.

ماذا نكتب، بل ماذا نفعل!؟ لن أدّعي حكمة ولا معرفة أكثر من غيري، ولكن ربما استطعت رغم كل الجنون الذي يحيط بنا، الاحتفاظ بعقلي بارداً هادئاً مراقباً، ومحللاً ليس منفعلاً، لذلك لا أرى حلاً، سوى خوض معركتنا في الداخل على تجار بيع الوطن تحت يافطة ادعاء معرفة ما لا نعرف، وادعاء الحب واللهفة والمسؤولية، لأن هؤلاء هم العدو الأكبر، لأن ساحة خرابهم أوردة الوطن، ويجب ألا نسمح لهم بالنصر بعد اليوم، لأنهم كانوا ذريعة استهدافنا، ومازالوا حتى الآن مصدر اعتلالنا، ومناعة قوية لجسد الوطن تستلزم استئصالهم، وإلا فسنبقى هائمين على الوجوه في “خربة لاند” بانتظار أن يخبرنا أحد، أي أحد: ماذا يجري؟!.