مجلة البعث الأسبوعية

بكين وواشنطن بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي.. نُذُر المواجهة تقترب

أحمد حسن

قبل فترة زمنية ليست بعيدة، وصف أحد المؤرّخين “جيش التحرير الشعبي” الصيني بأنه “أكبر متحفٍ عسكري في العالم”.

في ثمانينيات القرن الماضي كان الرئيس المصري الجديد حينها، حسني مبارك، يردّ على أستاذ جامعي نصحه بالتقارب مع الصين لأنها القوة الاقتصادية الصاعدة في القرن المقبل، بالقول هازئاً: “صين ايه يابو صين انت”.

مطلع الأسبوع الحالي كان الرئيس الصيني شي جين بينغ، متكئاً على قوة ثاني اقتصاد عالمي وعلى جيش خرج نهائياً من أروقة “المتحف”، يتعهّد أمام المؤتمر الوطني الـ20 للحزب الشيوعي الصيني بخوض “كفاح كبير ضد النزعة الانفصالية والتدخل” في جزيرة تايوان، مؤكداً أن حل هذه القضية “يعود إلى الشعب الصيني”، وأن بكين، وهذا الأهم والأبرز، “لن تتخلى أبداً عن حق استخدام القوة”.

 

الخروج من “المتحف”

بكلمة أخرى كان الرئيس الصيني يتعهّد أمام حزبه وشعبه بمواجهة القوة الأمريكية بشقيها الناعم والخشن، وذلك وإن كان يبدو، كما يعتقد البعض، نتاج عشر سنوات من “اعتماد سياسة لينينية يسارية في الداخل، وماركسية يسارية في الاقتصاد، وقومية يمينية على المستوى الخارجي” جعلت الصين تصنَّف، وفقاً لاستراتيجية الأمن القومي التي أعلنت عنها إدارة جو بايدن في الـ12 من الشهر الحالي، “منافساً استراتيجياً وحيداً لواشنطن لديه النيّة والقدرة بشكل متزايد على إعادة تشكيل النظام الدولي”، إلا أنه في الحقيقة نتاج عمل دؤوب لأمة فخورة أورثت أبناءها حضارة وتجربة دولية عريقة، ساعدتهم في مسعاهم للخروج من قرن الإذلال والمهانة السابق بعد حرب الأفيون البريطانية الاستعمارية الشهيرة، والانطلاق في تجربة بناء سلمي هائلة أخرجت مئات الملايين من تحت خط الفقر، الأمر الذي لم يرُق طبعاً لقادة العالم في الغرب الذين تابعوا بدهشة بروز قطب عالمي كبير لا يتقيّد بوصفاتهم التقليدية ولا ينساق خلف “قصص نجاحهم”، فالأنموذج الذي تطرحه الصين، والقائم على “التعاون المشترك والربح المشترك” نقيض الأنموذج الأميركي القائم على الحرب والعقوبات والاحتكار، وبالتالي يشكّل خطراً داهماً على قوتهم الناعمة، فكان لا بد من اللجوء إلى “الخشنة” وكان أول الغيث هو جهر واشنطن بلسان رئيسها السابق، باراك أوباما، في أواخر 2012 أن أولويتها هي احتواء الصعود الصيني، وبالتالي لم يكن أمام بكين، على الرغم من سعيها الدؤوب لتأجيل المواجهة بكل الطرق الممكنة، سوى تحويل “جميع الإجراءات في ميادين السياسة الداخلية والخارجية، كما في الميادين الاقتصادية والعسكرية ارتبطت بالضرورة الحيوية للتصدّي لهذه الاستراتيجية وإفشالها”.

من هنا نفهم المواقف والسياسات الضرورية لبكين ورئيسها، شي جين بينغ، سواء في الخارج، مشروع “الحزام والطريق” التي تُصنَّف اليوم إحدى أضخم المبادرات الاقتصادية في التاريخ، حيث وصل عدد الدول المنضمَّة إليها إلى 124، إضافة إلى 29 منظّمة دولية، أو في الداخل كـ”عمليات مكافحة الفساد، التي تخلّلها تطهير واسع للمؤسسات السياسية والاقتصادية والمالية”.

 

تايوان تدخل ميثاق “الشيوعي”!

ومن هنا أيضاً نفهم قصة تايوان كلها وخشية واشنطن الكاذبة على ديمقراطيتها العتيدة، وبالتالي نفهم لماذا قرّر الحزب الشيوعي “أن يُدرج للمرة الأولى إشارة في ميثاقه تؤكد معارضة بكين لاستقلال الجزيرة”.

لكن الأهم، أنه من قلب هذا الصراع نفهم أيضاً وأيضاً وفي هذا الإطار، كيف أن خطابات المسؤولين الصينيين لم تخلُ في السنوات الثلاث الماضية من إشارة إلى أن النظام العالمي القائم على الهيمنة قد انتهى، وأن نظاماً جديداً في طوْر النشوء.

 

وعي مبكّر

والحال أن الصين كانت ومنذ زمن بعيد واعية للتهديد الأمريكي، ففي عام 1955 قال ماو تسي تونغ: إن التهديد الأساسي الذي تتعرّض له الصين، يأتي من الولايات المتحدة التي قامت “بغزو تايوان الصينية ومضيق تايوان وأرادوا بدء حرب ذرية، لدينا شيئان: أولاً، لا نريد الحرب، ثانياً، إذا جاء شخص ما لغزونا، فسنقاوم بحزم، لا يمكن للابتزاز الذري للولايات المتحدة تخويف الشعب الصيني”.

 

اغتصاب ومواجهة!

وإذا كان ذلك في الماضي فإن واشنطن لم تتركه هناك، بل استمرّت وعلى لسان أرفع مسؤوليها بالتحذير من “الخطر الصيني، وربما كان “ترامب” الذي وصف فيروس كورونا بالفيروس الصيني أكثرهم صراحة، وبذاءة، حين اعتبر أن النظام الماركسي اللينيني يسعى إلى “اغتصاب” الولايات المتحدة، والهيمنة على العالم، وتقويض الديمقراطية؛ “لهذا، أطلقت إدارته حرباً تجارية، وهدّدت بـفصل الاقتصادَين الأميركي والصيني، حتى إن كبار المسؤولين في عهده، مِن مِثل مايك بومبيو الذي قاد المواجهة مع الصين، لمّحوا في خطاباتهم إلى تغيير النظام، عبر تمكين الشعب الصيني”.

 

الصراع اقتصادي حتى الآن

حتى اللحظة، وباستثناء الضغط الأمريكي من الخاصرة التايوانية، إلا أن الصراع مع بكين لم يتجاوز الشق الاقتصادي، حيث تسعى واشنطن حالياً إلى تقليل الاعتماد الغربي على الصين رغم صعوبة ذلك في هذا النظام الاقتصادي المعولم، وهي قد بدأت في ظل إدارة بايدن، “بتشجيع الإنتاج والصناعات المحلّية، تحت شعار الحفاظ على مرونة سلاسل التوريد”، وبدورها “دشّنت الصين استراتيجية دورة الإنتاج المزدوجة بهدف التقليل من الاعتماد على المورّدين الخارجيين، وتحرير صناعاتها من الارتهان للخارج، ولاسيما على صعيد صناعة الرقائق الإلكترونية”.

 

لكنها قادمة

بيد أن ذلك لا يعني سوى أن الحرب الكبرى قادمة، وحسب كيفن رود، رئيس الوزراء الأسترالي الأسبق والخبير في الشأن الصيني، “فإن أغلب المؤشرات توْصل إلى قناعة مفادها أن احتمال الحرب أصبح حقيقياً”، لذا، لم يعُد السؤال في واشنطن يتمحور حول إمكانية تجنُّب مثل هذه المواجهة، ولكن متى ستحدث، وتحت أيّ ظرف.

 

الرئيس شي

خلال إحدى الزيارات التي يقوم بها الرئيس شي جي بينغ، بصورة دورية إلى الريف، قال: إن “قضية واحدة تبْقى الأعزّ على قلبي، هي التي تتمحور حول أولئك الذين لا يزالون يواجهون الصعوبات. أتساءل دائماً عمّا إذا كان لديهم ما يكفي من الطعام، وما إذا كانت مساكنهم لا تزال جيّدة، وكيف يحتفلون برأس السنة وعيد الربيع (…). عملتُ بنفسي في الأرياف، وأُدرك تماماً معنى أن يكون المرء فقيراً”.

الرئيس الذي أكد في المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني عام 2012 أنه “خلال مسعى الجمهورية الشعبية الصينية لبناء حياة أفضل، ما من شخص أو عائلة أو إثنية، يجب أن تُترك في الخلف”، ليس وحيداً في هذه النظرة والتوجه فهناك “نحو 17 مليون شابٍ صيني، ممّن غادروا منازلهم، في زمن ماو تسي تونغ وبعده، واستغنوا عن حياة تسودها الرفاهية للذهاب إلى الأرياف النائية، حيث يعيش السكّان في الكهوف”، وهؤلاء اليوم من يقود الصين، وذلك هو الدرس والعبرة.