الأيديولوجية الجديدة أفقدت أوروبا النخب السياسية
عناية ناصر
عندما يُثار موضوع النخب السياسية في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، غالباً ما يتبدّى إلى الأذهان “الأب الروحي لـ أوروبا”، جان مونيه، ومهندس الاتحاد الأوروبي الحديث جاك ديلور، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي شارل ديغول، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر الذين قدموا جميعاً مساهمات بارزة في التكامل والازدهار والاستقرار الأوروبي. لكن اليوم، من الصعب العثور على أشخاص أوروبيين يمكن مقارنتهم بهم، حيث كان لمعظم النخب السياسية الأوروبية التي ظهرت في أوائل القرن العشرين خلفيات غير عادية، وقد تخرّج معظمهم من جامعات مرموقة.
سيطرت النخب السياسية لفترة طويلة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية على سلطة الدولة، وخلقت حضارة المجتمع الأوروبي، وضمنت الازدهار لاقتصادها الوطني. ومع ذلك، هناك عدد قليل من النخب والمشاهير على غرار ما سبق ذكره في الساحة السياسية الأوروبية اليوم، فالتغيرات في البيئة السياسية وظهور الاتجاهات الإيديولوجية الاجتماعية الجديدة تجعل السياسيين يفكرون أكثر في مصالحهم السياسية المباشرة، والأمر الأكثر إحراجاً هو أن العديد من النخب السياسية بعيدة تماماً عن حياة الناس العاديين، ومع ذلك فهي تسوّق نفسها كشخصيات تمثل الآخرين على نطاق واسع وتقود جميع الطبقات.
في السنوات الأخيرة، وقع العديد من النخب السياسية في أوروبا في “حلقة مغلقة” من التفكير غير المنطقي عند اتخاذ القرارات الرئيسية، فهم يركزون فقط على الأيديولوجية والمصالح السياسية والأمن الاستراتيجي، لكن من الواضح أنهم يتجاهلون مصالح عامة الناس والحاجة إلى التطوير.
لقد كان رؤساء الوزراء المنتخبون للمملكة المتحدة في الحكومات الأخيرة بارزين من حيث خلفيتهم وتعليمهم، لكنه لم يتمّ الاعتراف بهم على نطاق واسع، أو الحديث عن تأثيرهم على أوروبا والعالم. كان بوريس جونسون في “طليعة” النخب السياسية الأوروبية ضد روسيا في الصراع بين روسيا وأوكرانيا، مما أدّى في النهاية إلى أزمة التضخم البريطانية. وبالمثل، أدخلت ليز تراس بعد توليها منصبها تخفيضات ضريبية واسعة النطاق على عجل، وسياسات دعم الطاقة بغضّ النظر عن الظروف والأوضاع التي تعاني منها المملكة المتحدة. وعلى خلفية الوضع المالي الصعب في البلاد، لا تستطيع الحكومة البريطانية ببساطة أن تأتي بأموال ضخمة لإنقاذ نفسها، وفي النهاية، لا يكون أمام الحكومة من سبل سوى تغيير خططها، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان ثقة مواطنيها بها.
وكذلك هي حال بعض النخب السياسية الألمانية بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية، التي أولت أيضاً الكثير من الاهتمام للأيديولوجيا والمصالح السياسية في صنع واتخاذ القرار في سياساتها الخارجية، متجاهلةً ظروفها الوطنية والأوضاع المعيشية في البلاد. كما تفتقر ألمانيا ذات التعداد السكاني الكبير، والموارد القليلة، بشكل خاص إلى الطاقة والمواد الخام. ومن أجل الحفاظ على الازدهار الاقتصادي والقدرة التنافسية الدولية، يجب أن تغطي عيوبها وتغتنم الفرص التي توفرها العولمة.
يفتقر قادة حزب الخضر، والحزب الديمقراطي الحر إلى الرؤية الاستراتيجية والتفكير العقلاني، وهم يلقون باللوم على المستشارة السابقة ميركل في صداقتها مع روسيا، وتصعيد العقوبات ضد روسيا. ونتيجة لذلك، تواجه ألمانيا موقفاً صعباً مع ارتفاع التضخم، ونقص الطاقة، والركود الاقتصادي وارتفاع الأسعار، ومع ذلك، فإن ألمانيا لا تنفصل عن روسيا اقتصادياً في جميع الجوانب فحسب، بل إن بعض “النخب السياسية” في البلاد تدعو أيضاً إلى “الانفصال” عن الصين أيضاً، ويأتي مثل هذا التفكير غير المنطقي نتيجة التركيز المفرط على الأيديولوجيا.
منذ بدء العلاقات الدبلوماسية بين الصين وألمانيا قبل 50 عاماً، حافظ البلدان على علاقات ثنائية مستقرة، وتعاون اقتصادي وتجاري متبادل المنفعة، وأصبحت العلاقات بين الصين وألمانيا دلالة فارقة للعلاقات الصينية الأوروبية، إلا أن بعض السياسيين في ألمانيا اليوم يحاولون قمع الصين بأيديولوجية وتهديد الصين بـ”فك الارتباط” الاقتصادي، والسعي لاحتواء الصين من خلال عرقلة التعاون.
وبسبب الافتقار إلى النخب السياسية الحقيقية في أوروبا اليوم، غالباً ما تفشل الحكومات الأوروبية في إعطاء الأولوية لقضايا المعيشة في القرارات الرئيسية، وتتجاهل مطالب الناس والتنمية الوطنية البراغماتية، مما يؤدي إلى حالة من الفوضى في السياسة الأوروبية. لقد أعطت الأزمة النظامية المستعصية في المجتمع الأوروبي الفرصة للشعبوية اليمينية المتطرفة لتولي السلطة في بعض البلدان الأوروبية. وقد عبّر ستيفن كينزر، الباحث البارز في معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة في جامعة براون، عن هذا الوضع بقوله: “إن الغرب بلا قادة عظماء، وهذا ما أدى إلى إحراج النخب السياسية في الغرب”.