ثقافةصحيفة البعث

فن النوادر في الأدب العربي بين التهكم الإيجابي والهزل

آصف إبراهيم

يزخر التراث العربي بالنوادر والطرائف والشخصيات الظريفة، ويعدّ الجاحظ الأديب الساخر أشهر من وضع النوادر والطرائف وجمعها في كتابه النفيس “أخبار البخلاء”، حيث أبدع في وصف البخلاء وتصويرهم تصويراً واقعياً حسياً نفسياً فكاهياً، فأبرز لنا حركاتهم ونظراتهم القلقة ونزواتهم النفسية، وفضح أسرارهم وخفايا منازلهم، وأطلعنا على أحاديثهم وحواراتهم، وحلّل نفسياتهم وأحوالهم، ولكنه على الرغم من ذلك كله لا يكرهنا بهم لأنه لا يترك لهم أثراً سيئاً في نفوسنا.

ومن كتب التراث العربي التي غلبت عليها روح النكتة والظرافة “أخبار الحمقى والمغفلين”، لابن الجوزي، والذي تناول أخبار ومواقف الحمقى واستعرض في كتابه القيم أشعار وفصاحة وطبائع وصفات وأنواع الحمقى بأسلوب فكاهي طريف. كما روى الأصمعي، الذي لُقب براوية العرب، وعدّه المؤرّخون أحد أئمة الأدب واللغة والشعر، في كتابيه “النوادر” و”نوادر الأعراب” طرائف وقصصاً ذاع صيتها وانتشرت بين الناس.

وقد ابتدعت الكثير من الشعوب شخصيات كوميدية خيالية تتلاءم مع طبيعتها وظروفها الاجتماعية والاقتصادية، تروى عنها قصصاً مضحكة تتسم بالسذاجة أحياناً، وأحياناً أخرى بالذكاء ورهافة الحسّ، مثل شخصية جحا عند العرب، ونصر الدين خوجة في تركيا وملا نصر الدين في إيران، وشخصية آرتين في أرمينيا وغابروفو ذي اللسان السليط في بلغاريا، وآرو اليوغسلافي المغفل.

و”جحا العربي” شخصية ليست خيالية، بطلها رجل فقير كان يعيش بطريقة مختلفة عن الآخرين ويتصرف بذكاء كوميدي ساخر، وقد انتشرت قصصه ومواقفه المضحكة وتداولها الناس على مرّ العصور حتى عصرنا هذا، حيث ما تزال شخصيته ترمز للطرافة وخفّة الظل.

حول هذا الموضوع استفاض الدكتور أحمد دهمان أستاذ الأدب العربي في جامعة البعث، والباحث والناقد في الأدب القديم، خلال محاضرته التي ألقاها في قاعة اتحاد الكتّاب العرب فرع حمص، وبدأها بتعريف النوادر لغة واصطلاحاً، ثم التعريف بشخصية جحا التي اختلف الباحثون حول حقيقة وجودها: هل هي من صنع الخيال؟ أم واقعية؟ وتنسب إلى أبي الغصن دجين العزاري، وعاصر أواخر القرن الرابع الهجري وأوائل القرن الخامس، وعمّر أكثر من مئة سنة، وهو رجل فقير عُرف عنه الذكاء والسخرية التي وظفها في التعبير عن ضمير الفقراء وثورتهم على الحكام المستبدين، ويقال عنها إنها جمعت المتناقضات ولاسيما الحمق والذكاء، عاش في ظل ظروف اجتماعية يسودها التفاوت الطبقي الحاد والانقسام بين الأعيان والفقراء الذين ينظر إليهم نظرة دونية، ولذلك فقد أدان عصره وتحوّلت سيرته إلى ملاحم شعبية.

كما يتناول الدكتور دهمان القيم الموضوعية والفنية التي تتميّز بها نوادر جحا، وموقفها من السلطة التي وظفها بذكاء جنّبه غضب السلطات وعقابها، ويسرد أمثلة عديدة من النوادر الجحوية.

ويقسم النوادر إلى موضوعات، منها “جحا والسلطة” ويعبّر فيها عن رفض شعبي عميق للكثير من السلوكيات التي كان يرتكبها رموز الدولة، و”جحا والقضاء” ويعبّر فيها عن موقفه من القضاء والممارسات السلبية التي تكتنفه، و”جحا واللصوص” وغيرها، كما تتسم بسمات عدة منها الوضوح في التعبير بغضّ النظر عن نوعها.

ومن خصائص النوادر يذكر دهمان الوضوح التعبيري، والبساطة الشديدة التي يمكن أن تصل إلى عقول الناس وقلوبهم دون عناء، وما يميّزها أيضاً أنها لا تميل بالخطاب إلى الوعظ المباشر، بل إنها تتضمن مواقف عملية وحوارية بحيث يظهر جحا نفسه أحياناً غبياً أو متغابياً أو جاهلاً، ويظهر في أحيان أخرى ذكياً ماكراً.

دوافع النوادر نفسية تكشف عن ميل الإنسان إلى التعبير عن رغبات كامنة، فهي تعبّر عن رأي الجماعة، وتعتمد على عنصر التصوير والحركة من حيث تصوير الشخصية الكاريكاتورية، وهي نتاج الوجدان الشعبي، كونها أداة تعبير لعامة الناس. والنوادر الجحوية بتركيزها على الجانب السلبي في الحياة والمجتمع، لا تنتقم أو تهجو فحسب، بل تعالج وتخفّف من التوتر الداخلي، وتحدّ من مخاوف الجماعة أو الأمة، وتعيد اعتبار الذات للذات.

ومن اللافت للنظر أن المأثور الجحوي بعامة، لم يكن وقفاً على النقد السياسي أو الاجتماعي فحسب، بل أدى وظائف أخرى، نفسية وجمالية، بالضرورة. فالنوادر الجحوية ليست إلا تعبيراً عن واقع نفسي وخارجي معاً، في بنية واحدة متعاضدة، إنها هنا تسخر، تنتقد، تنتقم، تفرج، تسري، فهي تنفيس وتفريغ لشحنات انفعالية سالبة، وتأتي النوادر الجحوية في وظائفها الجمالية والإمتاع وتحقيقاً للجانب الباسم في مسرح الحياة، باعتبارها رواية هزلية كبرى كما يُقال.