الشاعر محمد عيسى… شطب المسافة بحكم الالتصاق
رائد خليل
مابعد العاصفة، ثمة رسالة من الزمن القادم أرسلها الشاعر محمد عيسى بعد أن أتعبه الانتظار.. وهو يقيس ارتفاع الفراغ عن الأرض حول أمّه بقفزاته الصغيرة..!
عندما خطَّ محمد عيسى رتوش عناوين قصائده النثرية، لم ينسَ لغة التأويل في أشياء لم تحدث بعد.. وهنا، خصوصية الطبع والفضول وارتشاف التبشير من مستقبل استطاع أن يصوغه عن سابق إصرار تحسباً من زوبعة تنقضّ على خزين حنينه، وتبعثر أوراقاً لملمها من أزقّة الحياة المسجّاة على كامل العمر.
تدور حكايات الشاعر حول الجهات التي أعلنها مُلكاً بعد أن صعد إلى قامته، ورافقته زرقة السماء ودبكة المطر التي أعلنت الهطول والمسير من أول الأرض إلى آخر الجسد, حيث الماء يرعى قطعان الحقول.
“عندما تأتين لزيارتي..
سأرحّب بك..ثم أغافلك..
وأخرج ممحاتي من جيبي..
لأمحو الطريق
الذي أتيت عليه
وقبضة الباب
والمفاتيح..”..!
النداء الداخلي عند الشاعر هو المصحاة التي جعلته قارئ نفسه.. وجعتله يفكر أكثر بنوع التواصل، على الرغم من أنّ النصَّ يحتاج إلى قارئ، لكنه يفكر دائماً بخلق لغة جديدة مع القصيدة..ويتعايش معها نيابة عن القارئ..أو بمعنى أوضح، علاقته تنحصر في خلق همزة وصل أو وساطة أقرب إلى السمعية..وهذا تفضيل النفس على الآخر، ولا يحبذ أن يكون الجمهور مرافقاً لحالة القصيدة، كي لا يشعر بضغطهم..وبذلك تتحول الحالة إلى مسبقة الصنع، إنه يكره القوالب النمطية الجاهزة.
في المساء..
أعطي ظهري للشمس
فيسقط ظلي على الأرض
ليتسع شيئاً فشيئاً
ليغطي السهول والمدن
والطيور النائمة في أعالي الأشجار
تلمع النجوم في السماء
حينها أعرف أنني
أنا الليل
إذن، الفعل الجمالي يرتبط بفكّ قيود النمطية، والتجريب مجازفة لخلق ثوب مغاير، و كما يعدّه بعضهم مقامرة شعرية.. وهنا يأتي القول الشعري عند محمد عيسى نافياً المجازفة والمقامرة، لتأكيد أن التجريب كمفهوم ضروري، و خروج عن السائد، وهذا يتطلب لغة جديدة, أمّا المرجعية، فيجب التقيد بها، على أنها نصٌّ شرعيٌّ فقهي، وهذا ما يدعوه إلى الجرأة في قول الجديد المتوالد وإسقاط مقولات المقامرة وغيرها من مصطلحات تقيّد تحليق الشاعر في عوالم الإبداع.
يرى الشاعر أنه الوحيد الذي رأى الأفق يتدلى فوق مائدة المكان ورأسه إلى الأسفل.. ويبدو أنّ الحالة جعلته يتذوق التجربة من وعاء لا يعرف المألوف
وربما كانت تشكيلاً جديداً، وزينة جديدة لا تخلو من سوريالية أحياناً، فالأدب مهما كان جنسه، من حقه أن يلامس كل مدارس التكوين الفني وصياغة المحتوى على أسس واقعية ورمزية وتعبيرية…الخ..بتوصيف آخر، أطياف ملونة تضفي على النص عناصر دهشة..وعموماً، فالشاعر عيسى ليس ميالاً لأن يكون للأدب صفوف مدرسية ..ويبحث عن جوانب لم تكتشف بعد..وهذا ما جعل يده تعيد القمر إلى وجهه لتتوقف الأرض عن الرقص.
لا بد لجراح الشاعر أن تبقى مفتوحة على احتمالات النزف..سهم يعضُّ الجرح عليه والقلب لي…كانت الرمية صائبة، شفيفة الطعن…علقتْ بطْشَها بكيدٍ في مجرّة القلب…وما متُّ…إذن، هو الجرح الذي يتمنى ألا يندمل، وسوف يرقد تحت شجرة عله يحكّ شفاه جراحه على أغصانها.
أما التوجس شراً، فهو تعبير عن فقدان الأمل، ونحن بأمسِّ الحاجة إلى مفاهيم تُطمئِن حتى لو لم تتحقق..الحب مثلاً..مفهوم، سريع العطب، ولكن..يتمنى الآن لو استطاع عناق الليل بجرة مصباح.
رنين قدر الشاعر يهوي إلى آخر متاهته…فلا اغتراب.. وهو العائد من شرفة الذهول.. فمتى علمته المرأة أن يرسم أصابعه شموعاً على دروب الانتظار.. وقاربه المصرّ على المجيء.. أنعسته الذاكرة؟
لا شيء سوى الريح تدوّر مغزلها وتحوك لك كنزة من هبوب…هذي هي حالة الغياب…الواقع يحوّل الموضوع إلى حالة ذهنية..أو رمز أفلاطوني، ولا تستطيع أن تعبر إلى الضفة الثانية وما زلنا على قيد الانتظار.. ولكنكم لن تستطيعوا منع ذاكرته من صنع ما تريده.. لهذا..يحمل قرنفلة “يهندمها” لغائبة لا تجيء..!
الخفاش الذي طار في الليل
وعبَرَ فوق بيتي..
ما وقعت عيني عليه
وما رأيته قطّ..!
***
طبعي فضولي ونتسرع
ما إن سمعت بالمستقبل..
حتى صعدتُ إلى أعلى قمة
لأكون..
أول من يبشر بقدومه..
***
ما زلت أتلفتُ كلما رأيت صبية
لا لشيء ..فقط
لأمرِّن رقبتي..
خوفاً من التشنج..!
إذن..في عوالم محمد عيسى الشعرية خصلات من قلق الشاعر وأحاديث الذهول وتجليات تأخذ القارئ إلى أقصى درجات المكان…
” أعِدْ لي هذا الشيء الذي خبّأته..بأمِّ عيني رأيتكَ..
وأنت تدسّه في عبّك خلف أضلاعك..ومازلت تدّعي..بأنّه قلبك..”؟!
…………………………………………………………………………
للشاعر أربعة دواوين.. رتوش مابعد العاصفة – شيء ما – مائدة البراري- لاشيء في أوانه