جدلية القمح والطاقة
علي اليوسف
كان من الطبيعي أن تعلّق روسيا المشاركة في صفقة الحبوب بعد الهجوم الإرهابي بطائرات مسيّرة في مياه سيفاستوبول على سفن أسطول البحر الأسود الروسي، وسفن مدنية كانت على الطرق الخارجية والداخلية لنقطة القاعدة، وبالتالي فهي في حلّ من قرارات كييف وأنقرة والأمم المتحدة بشأن إعادة حركة السفن، لأن القرارات اتُخذت بدون موسكو، وعليه فهي غير ملزمة لروسيا.
تعليق المشاركة في صفقة الحبوب من الجانب الروسي لم يكن على الإطلاق لعرقلة التصدير أو تجويع العالم، كما تدّعي الصحافة الغربية، بل هي رسالة بأن اللعب بهذه الورقة سينعكس سلباً بالدرجة الأولى على دول الاتحاد الأوروبي التي تزوّد كييف بالمسيّرات لاستخدامها ضد القوات الروسية، وهو ما أكدته صحيفة “نيويورك تايمز” بأن الهجوم نفّذته القوات المسلحة الأوكرانية بطائرات مسيّرة من صناعة غربية.
ووفق رواية الصحافي في “نيويورك تايمز” أندرو كرامر، الموجود في منطقة خيرسون، والذي نقل الخبر، فإن المعطيات الجديدة تدلّ على ظهور إمكانيات تسليحية جديدة، أو بمعنى آخر أن إمدادات الأسلحة الغربية قد بلغت ذروتها في الوقت الحالي، وهو السبب الرئيسي في تعليق روسيا مشاركتها في صفقة الحبوب.
لكن هذه ليست كلّ الرواية، ففي الخفاء تلعب الدول الغربية لعبة قذرة تدور معطياتها حول “شيطنة روسيا”، وإظهارها على أنها من تريد تجويع العالم، وهو ما تدركه موسكو جيداً، حيث أعلنت مباشرة بعد وقف مشاركتها بأنها ستصدّر القمح للدول الأكثر فقراً، والتي حُرمت من القمح المصدّر بموجب اتفاق الحبوب الذي استحوذت عليه الدول الغنية وأولها الدول الأوروبية، حيث يقال إنها ستبيعه بضعف الأسعار العالمية، كما يجري الآن في لعبة “النفط والغاز الأمريكي البديل عن الروسي”.
إذاً، هي معادلة بسيطة لا تحتاج إلى عناء تفكير، فمن جهة تستحوذ أمريكا على النفط والغاز وتبيعه بالأسعار التي تريدها إلى الدول الفقيرة، ومن جهة ثانية تستحوذ الدول الأوروبية على القمح –مصدر الغذاء– وتبيعه هي الأخرى إلى الدول الفقيرة ذاتها بأسعار مضاعفة. أي أن هناك علاقة جدلية بين دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهي علاقة الاستفادة القصوى من الحرب عبر الاستحواذ المالي من الدول الأخرى، وما ينتج عن ذلك من تبعية بحكم الأمر الواقع، وخاصة إذا كانت تلك الدول لا تملك السيولة اللازمة للشراء، وبالتالي ستضطر للجوء إلى الاقتراض من البنوك التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، بحيث ستدفع ثمن هذا الاقتراض بأن ترهن مقدراتها إلى من دفعها بهذا الاتجاه!.
وهذا ما يفسّر رفض الغرب حتى الآن إيجاد حلول بالطرق السلمية لأزمة أوكرانيا، رغم أن موسكو صرّحت في أكثر من مناسبة أنها مستعدة لمفاوضات إذا كانت المقترحات واقعية، وعلى رأسها الرئيس فلاديمير بوتين، بحسب تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف. لكن يبدو أن الغرب لا يريد حلاً للأزمة، وإيجاد حلول وسط تحقق التوازن بين مصالح جميع الدول، والعودة إلى الوضع الذي كان سائداً في كانون الأول، وكانون الثاني الماضيين.