دراساتصحيفة البعث

حروب “مابعد الحداثة”.. الحروب الفتاكة “غير المرئية”.. حروب الإدراك والمعلومات والمنطقة الرمادية

 

د. سومر منير صالح    

الحرب في أحد أبعاد فهمها ظاهرةٌ معرفيةٌ.. وفق المنظور الأنثروبولوجيّ، الذي يرى أنهّا وليدة تطوراتٍ حضاريةٍ أو ثقافيةٍ سريعة، لذلك إنّ رصد هذه التطورات بشكلٍ مبكرٍ يساعد في فهم التغيرات البنيوية والفكرية لتلك الظاهرة، ومع دخول العالم مرحلة ما بعد الحداثة، كان لابدّ من فهم التأثيرات المتبادلة بين ظاهرتيّ الحرب والفكر، حيث شهد الثلث الأخير من القرن العشرين ولادة ظاهرٍة معرفيةٍ تدعى “حالة ما بعد الحداثة”، وهي تمتدّ بسرعةٍ وتهيمن على المشهد الثقافي، إّن ما بعد الحداثة كلحظةٍ فلسفيةٍ جاءت لتعبّر عن أفول عصر الحداثة، عصر السرديات الكبرى والحتمية والسببية العلّية، ليبدأ العصر الما بعد حداثيّ، عصر التشكيك والتفكيك الذي هو بلا شكٍ نتاج التقدم العلميّ؛ فتطور قوانين الفيزياء وانتهاء عصر الميكانيك الحتميّ التقليديّ والنيوتينية، لصالح الكوانتية الفيزيائية وظهور المذهب النسبيّ في الفيزياء، مع إنكار الفاعل العاقل والمنطقيّ، أدخل الحداثة في جدلٍ مع نقادها فيما يعرف بمرحلة ما بعد الحداثة.. هذا التحول إلى ما بعد الحداثة أدى إلى إعادة خلط العديد من المسائل والحقول، وفي مقدمها ظاهرة الحرب، فلكلّ عصرٍ حروبه الخاصة وأشكالها الخاصة، فحقبة ما بعد الحرب الباردة شهدت استبدال القوة الصناعية بقوة المعلومات، ومعه دخلت الحرب في عصر العولمة الرقمية مرحلة تطورٍ جديدة، ربما هيّ أقرب لعملية تكيّفٍ  واستثمارٍ لنمط العصر الرقميّ من جهةٍ، والنمط الفلسفيّ السائد من جهةٍ ثانية (ما بعد الحداثة)، فبدأت الولايات المتحدة عموماً بممارسة (حرب ما بعد الحداثة) على خصومها والأماكن ذات المصلحة الاستراتيجية لها، تتميز تلك الحرب بشكلٍ خاصٍ باستخدامٍ مكثفٍ للمعلومات، والنهج الشبكيّ، وإدماج الإجراءات غير المباشرة والسرية في الحرب، والجودة الخاصة للتقنيات الجديدة، فالتركيز ما بعد الحداثيّ على المعلومات واللغة واستخدام الرموز والتقاليد والأساطير والتقنيات والتأثيرات والاستعارات لبناء الحقائق، يعيد تعريف الحرب كظاهرةٍ سياسية، فالصور والمحاكاة (التي نراها تغزو وسائل التواصل الرقميّ) في بعض الأحيان لا تقلّ أهميةً عن الأحداث الفعلية لأنّها تصبح أحداثًا في حدّ ذاتها.

لعقودٍ خلت، كان فهم الإطار الأساسيّ للحرب الحديثة يستند إلى مقولات كارل فون كلاوزفيتز في كتابه “عن الحرب” (حروب الحداثة)، فلقد عرّف الحرب الحديثة بين الدول بأنهّا “مبارزةٌ على نطاقٍ أوسع”، وشرح هدفها على أنّه “استمرارٌ للسياسة بوسائل أخرى”، مع عناصرها الأساسية المتمثلة في “عقلانية الدولة، والقيادة العسكرية..”. وبناءً على عمل كلاوزفيتز، قام ويليام س. ليند بالتمييز بين أربعة أجيال من الحروب منذ صلح وستفاليا، عام 1648، ولكلّ جيل طريقته الخاصة في خوض الحرب: الجيل الأول هو الحرب التقليدية بين دولتين لجيشين نظاميين، والجيل الثاني  يُعرف بحرب العصابات، بينما الجيل الثالث يُعرف بالحروب الوقائية أو الاستباقية، أمّا الرابع فهيّ الحرب اللا متماثلة (دولةٌ مقابل عدوٍ من طبيعة لا دولة)، ولكن مع دخول الفكر السياسيّ العالمي مرحلة ما بعد الحداثة، بدت ملامح تأثر ظاهرة الحرب بها واضحةً، فهيّ (أيّ الحرب) تمرّ بأزمةٍ معرفيةٍ من شأنها أن تؤدي إلى إعادة تعريفٍ جذريةٍ من حيث أركانها وعناصرها واستراتيجياتها، وهذا جزءٌ من أزمة ما بعد الحداثة العالمية العامة، فالظروف الاستراتيجية والعملياتية التي تحدد السياق الحديث للحرب باتت في عصر ما بعد الحداثة تتعرض لتحدياتٍ جديدٍة. ورغم أنّ تطبيق نظريات ما بعد الحداثة على دراسة الحرب ما زالت ظاهرةً حديثةً نسبيًا، إلّا أنّ مصطلح (حرب مابعد الحداثة) بات راهناً واقعاً معرفياً ومادياً، الأمر الذي شكّل تحديًا عاجلاً للطرق التي نتصور بها الحرب، وتشن بها فعلياً في عصر التكنولوجيا العالية، فقد أحدثت الحوسبة والذكاء الاصطناعي ثورةً في الحرب، ولّدت أسلحةً قويةً بشكلٍ مضطردٍ، وخطابا برغماتيّا يخفي إمكانات الحرب المروعة في عبارات مثل “الأسلحة الذكية” و”القتال غير الدموي”، تدرس حرب ما بعد الحداثة الممارسات المعاصرة للحرب، وترفض الاعتقاد الحداثيّ بوجود مبادئ ثابتةً أو مجموعةٍ من الحقائق العالمية حول الحرب، بدلاً من رؤيةٍ موحدةٍ للحرب، تسعى حرب ما بعد الحداثة إلى ما هو مختلفٌ، إذ يتم استبدال النهج العقلانيّ والبيروقراطيّ بالبراغماتية واللحظية، كما تدرس مناهج الحرب ما بعد الحداثية كيفية تفاعل الجماعات والأفراد مع الظروف المتصورة لبيئة الحرب، وتقديرٍ جديدٍ لتشكيل الهوية في بيئة اتصالاتٍ عالميةٍ،  ليس لحرب ما بعد الحداثة قواعد محددةً مسبقًا أو قواعد سلوكٍ معترف بها، يمكن إنشاء القواعد، كما هي، لتناسب اللحظة، واعتمادًا على الظروف، وعلى عكس النهج الحداثيّ الذي ينظر إلى النهاية السياسية كمحددٍ لنتيجة الصراع، قد تكون السيطرة على وعيّ السكان أكثر أهميةً من اكتساب السيطرة السياسية في سياق حروب ما بعد الحداثة.

تُعدّ حروب الجيل الخامس التطبيق الفعليّ لحروب ما بعد الحداثة، استخدم مصطلح “حرب الجيل الخامس (5GW)” لأول مرةٍ في العام 2003 بواسطة روبرت ستيل، تجري هذه الحروب في المقام الأول من خلال العمل العسكريّ غير الحركيّ، مثل الهندسة الاجتماعية، والمعلومات الخاطئة (التضليل المعلوماتي)، والهجمات الإلكترونية، إلى جانب التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، وصف دانيال أبوت حرب الجيل الخامس بأنها حرب “معلوماتٍ وإدراك” وهيّ من نمط الحروب المعرفية، والتي تجّسد فكرة القتال بدون اشتباك، وتمثّل البعد العملياتي الثالث الجديد، إلى جانب السيبرانية والمادية، والتي تهدف إلى تمزيق وتفتيت مجتمعٍ بأكمله، بحيث لا يعود لديه الإرادة الجماعية لمقاومة نوايا الخصم، حينها يمكن للخصم إخضاع المجتمع دون اللجوء إلى القوة أو الإكراه، فهيّ شكلٌ غير تقليديّ من أشكال الحرب التي تستخدم أدوات إلكترونيةٍ لتغيير العمليات الإدراكية للعدو، واستغلال التحيزات العقلية أو التفكير الانعكاسيّ، وتعميق التشوهات الفكرية، والتأثير في صنع القرار، بدوره أليكس ب. شميد قال إنّ حرب الجيل الخامس تتميز “بميدان المعركة المنتشر في كلّ مكان”، وأنّ الأشخاص المشاركين فيها لا يستخدمون بالضرورة القوة العسكرية، وبدلاً من ذلك يستخدمون مزيجًا من القوة الحركية وغير الحركية، تحاول فيها الدول أن تهزم بعضها البعض من خلال العمليات الرقمية بدلاً من الصراعات العسكرية، وتتفشى خلالها الهجمات الإلكترونية، بينما تصيب الهندسة الاجتماعية والمعلومات المضللة الإنترنت، وتكون فيها الكيانات غير الحكومية قادرةً بشكلٍ متزايدٍ على شنّ حربٍ على قدم المساواة مع الدول القومية، فالجيل الخامس من الحرب هو معركةٌ معرفيةٌ وإذا لم تتحكم في المعلومات، فسوف تتعطل دورة اتخاذ القرار الاستراتيجيّ الخاصة بك، طبعاً حروب الجيل الخامس هيّ استمرارٌ لأهداف حروب الجيل الرابع فتعتمد – في الأساس- على خلق تناقضات ما بين الدولة والمجتمع، باستغلال كافة الوسائل، لإحداث الخلل في العلاقة بينهما؛ ولكنها تختلف عنها في الوسائل والمسارات، لذلك يسميها بعض المنظرين حروب الجيل الرابع المتقدم، طبعاً الفرق الرئيس بين الجيلين هو ساحة المعركة وميدانها وأطرافها، فالجيل الرابع خطوط الصراع تبدو فيه متمايزةً، بينما حروب الجيل الخامس غير متمايزةٍ ومتداخلةٌ وتعرف بـ (حروب المنطقة الرمادية)، وهيّ “تفاعلاتٌ تنافسيةٌ بين وداخل الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية والتي تقع بين ثنائية الحرب التقليدية والسلام”، أحياناً تتسم بحروب الوكالة، أو حروب “الظلّ”.

طبعاً حروب الجيل الخامس هيّ من نمط الحروب الهجينة الذي صاغ أطرها المعرفية المنظر العسكريّ الأمريكيّ فرانك هوفمان، وتعني اندماجٌ للحرب السياسية والتقليدية وغير النظامية والسيبرانية، إنهّا تتضمن أدواتٍ للأخبار المزيفة والإكراه الاقتصاديّ، باستخدام أساليب مثل بناء الروايات من خلال تكنولوجيا المعلومات والإعلام، ودعم الميليشيات بالوكالة، والتدخل الانتخابي الأجنبيّ، والحرب القانونية، والدبلوماسية، كما يشير إلى نهج القتال متعدد الجوانب الذي يهدف إلى تعطيل إجراءات الخصم دون أّي شكلٍ من أشكال المواجهة، فأساليب الحرب التقليدية باتت قديمةً في القرن الحادي والعشرين، هذا يعني أنّه يمكن خوض حرب من الجيل الخامس والانتصار فيه دون إطلاق رصاصةٍ واحدة، أو حتى معرفة معظم السكان بحدوث حرب، يتم إخفاء استخدامها، من خلال وسائل التضليل (البيانات مدفوعة)، وتقنيات التزييف العميق، والهندسة اجتماعية، والحرب النفسية اللامركزية وغير المنسوبة إلى حدٍّ كبير (“الميمات” مصطلح لريتشارد دوكينز يمكن استخدامها لاختزال الثقافة والتلاعب بها على منصات الإنترنت، لأنهّا لا تخضع غالباً للتفكير النقديّ)، إنّ أهم ما يميز الحروب الهجينة هو طبيعة الهجوم المخفية، والتي ترتكز على ثلاث ديناميات: الأولى هي الهندسة الاجتماعية، والثانية هيّ “العمليات النفسية”، والثالثة حرب المعلومات الاستراتيجية، فالهندسة الاجتماعية هيّ فن استخراج معلوماتٍ سريةٍ عن طريق التلاعب النفسيّ، وهيّ هجومٌ استراتيجيٌّ يعتمد على التفاعل البشريّ، ونظام احتيالٍ معقدٍ، وخداع الأفراد في إعطاء المعلومات الخاصة بهم، كما يهدف إلى التأثير على المستخدمين أو التلاعب بهم وخداعهم للوصول إلى معلوماتٍ حساسة، غالباً يسعى المُهندس الاجتماعي إلى تغيير سلوك الأفراد وطريقة تصرفهم، وأسلوب تفكيرهم، من أجل الوصول إلى الهدف الذي يرنو إليه، بينما الدينامية الثانية هيّ “العمليات النفسية” والتي يتم تعريفها على أنّها “إجراءاتٌ مخططةٌ تهدف إلى نقل معلومات ومؤشرات مختارة إلى الجمهور الأجنبيّ من أجل التأثير على عواطفهم ودوافعهم وحججهم الموضوعية، وأخيراً على سلوك القوى الأجنبية والمنظمات والجماعات والأفراد، أمّا بالنسبة للدينامية الثالثة فهيّ حرب المعلومات الاستراتيجية والتي تتسم بتكلفةٍ منخفضةٍ وحدودٍ تقليديةٍ غير واضحة، بسبب التفاعل المتزايد داخل البنية التحتية للمعلومات، وعلى عكس تقنيات الأسلحة التقليدية، لا يتطلب تطوير التقنيات القائمة على المعلومات موارد ماليةً كبيرةً أو رعاية الدولة، قد تكون الخبرة في أنظمة المعلومات والوصول إلى الشبكات المهمة هيّ المتطلبات الأساسية الوحيدة، لقد أخفت الحرب الهجينة وحرب الجيل الخامس ساحة المعركة، وهو أمرٌ أربك تصورات منظريّ الحرب الحداثية، لأنه جعل منظور الخصوم عن طبيعة الحرب يزداد صعوبةً على الفهم.

ختاماً، حرب الجيل الخامس هيّ حربٌ غير مرئيةٍ، حرب معلوماتٍ وحربٌ اقتصادية، إضافةً لكونها حرباً رقميةً، تستهدف الوعي الجمعيّ للخصم، وأحياناً جعله يتبنى رواية عدوه، والهدف الرئيس لها هو تقسيم أيّ مجتمعٍ سياسياً، وخلق اضطراباتٍ سياسيةٍ بحيث يصبح الفساد شائعًا في المجتمع، كما أنّ الاقتصاد هو أيضاً هدفٌ أساسيٌّ في حرب الجيل الخامس، إنّ خلق عدم الاستقرار الاقتصاديّ بما في ذلك الحرب على قيمة العملة، والنقص المتعمد في السلع، والعقوبات الاقتصادية، وعزل الدولة عن المجتمع الدوليّ، هيّ من الأهداف الرئيسة في حروب الجيل الخامس الهجينة.