كييف تعطّل “صفقة الحبوب”.. مَن المستفيد؟
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
“بعد قيام نظام كييف بمشاركة خبراء بريطانيين في 29 تشرين الأول من هذا العام بعمل إرهابي ضد سفن أسطول البحر الأسود وسفن مدنية تشارك في ضمان أمن “ممر الحبوب”، يعلّق الجانب الروسي المشاركة في تنفيذ اتفاقيات تصدير المنتجات الزراعية من الموانئ الأوكرانية”.
هذا نصّ البيان الذي أوجزت فيه وزارة الدفاع الروسية الأسباب التي دفعتها إلى تعليق مشاركتها بصفقة الحبوب التي يُفترض أنها أصلاً صيغت من أجل تمكين أوكرانيا من تصدير قمحها إلى الأسواق العالمية، وإيصال الحبوب إلى الدول الأكثر فقراً في العالم.
ولكن الصفقة التي أريد منها في الواقع حشر موسكو في الزاوية والقول إنها ترفض تمكين العالم الثالث والدول الفقيرة من الحصول على حاجتها من القمح، والتسبّب في مجاعة، إمعاناً في تأليب الرأي العام العالمي على روسيا، وخاصة دول العالم الثالث، استطاعت موسكو أن تحوّلها إلى فرصة لكسب تأييد كبير لدى الدول الفقيرة، لأنها لم تقف عائقاً في طريقها بل قدّمت جميع التسهيلات الممكنة لها، وذلك سحباً للذرائع من الغرب الجماعي الذي أراد محاصرة روسيا واتهامها بالتسبّب في أزمة غذاء عالمية.
كل ذلك كان يتم على الرغم من أن الغرب كان قد اتّخذ إجراءات عقابية لموسكو تمنعها أو تحدّ من قدرتها على تصدير القمح والأسمدة إلى الأسواق العالمية، مع أن هاتين المادتين تعدّان عنصراً أساسياً في الأمن الغذائي العالمي، وأن الأمم المتحدة ذاتها هي التي أشرفت أصلاً على هذه الصفقة بدعوى تمكين الدول الجائعة من الحصول على حاجتها من الغذاء، وبالتالي فإن القول إن موسكو هي التي تعرقل إمدادات الحبوب إلى العالم قد سقط بعد موافقة موسكو على الصفقة، رغم أنها تعلم أن النظام في كييف يمكن أن يستخدم التسهيلات التي تقدّمها الصفقة في استهداف سفن الأسطول الروسي.
وعلى الرغم من أن الجانب الروسي أوضح غير مرة أن باستطاعة النظام في كييف تصدير منتجاته من الحبوب عبر طرق متعدّدة، تم التركيز في حينها على تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، وكذلك أكدت روسيا مراراً أن نحو 10% فقط من الحبوب الأوكرانية تتجه إلى الدول الفقيرة، بينما تستحوذ الدول الغربية على النسبة المتبقية، غير أن ذلك لم يكن ليحرّك الأمم المتحدة للقول: إنه ينبغي أن تتجه هذه الحبوب إلى الدول الفقيرة.
والآن وبعد قيام نظام كييف بتنفيذ هجوم إرهابي على سفن أسطول البحر الأسود وسفن مدنية في سيفاستوبول، باستخدام طائرات مسيّرة، أعلنت موسكو أنها لا تستطيع “ضمان سلامة السفن المدنية” المشاركة بمبادرة البحر الأسود، حيث تم استخدام ممر إنساني آمن مخصّص لتصدير المواد الغذائية من أوكرانيا لتمويه الهجوم على سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم الروسية، حسب المندوب الروسي الدائم في الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا.
وقال نيبينزيا في رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: إن “الهجوم تم تمويهه بالممرات الآمنة المعدّة لتنفيذ ما يسمّى مبادرة البحر الأسود”.
غير أن المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، لم يقم بالإشارة إلى الجهة المتسبّبة بتعطيل المبادرة رغم أن الجانب الروسي في رسالته إلى غوتيريش أوضح ملابسات الحادثة، واكتفى بالقول: إن الأمم المتحدة على اتصال بالسلطات الروسية على خلفية قرار موسكو تعليق المشاركة في صفقة الحبوب.
وأكد أنه يتعيّن على جميع الأطراف الامتناع عن الأعمال التي قد تعرّض صفقة الحبوب للخطر، دون أن يحدّد هذه الأطراف صراحة، رغم أن وزارة الدفاع الروسية أعلنت بشكل واضح أن هجوماً إرهابياً شنّته قوات أوكرانية بطائرات مسيّرة على سفن أسطول البحر الأسود الروسي بمساعدة خبراء بريطانيين، فما الغاية الحقيقية الكامنة وراء ذلك، ولماذا يقوم الجانب الغربي الآن بتعطيل إمدادات القمح عبر أوكرانيا؟.
لا شك أن هناك عملاً ممنهجاً الآن لتشويه صورة روسيا أمام الرأي العام العالمي، ولكن بالنظر إلى الأطراف التي يجب أن تكون مستفيدة فعلياً من إمدادات الحبوب وهي الدول الفقيرة، ربما تكون الغاية من العرقلة هي تأليب الرأي العام في هذه الدول على روسيا وسحب تأييدها للجانب الروسي في الحرب الدائرة الآن بين حلف شمال الأطلسي وروسيا عبر أوكرانيا، وليس صحيحاً على الإطلاق أن الأمم المتحدة تسعى فعلياً إلى تأمين الحبوب للدول الفقيرة، لأنها إذ ذاك لن تكون عاجزة عن توجيه أصبع الاتهام إلى الطرف الذي تسبّب في ذلك، ولكنها تريد على وجه الحقيقة تغطية الموضوع والإيحاء للعالم بأن الجانب الروسي هو الذي يرفض تنفيذ المبادرة، وبالتالي الوصول إلى الغاية المبتغاة من كل الأزمات المثارة مؤخراً وهي شيطنة روسيا وتشويه صورتها وإدانتها، وصولاً إلى الهدف المنشود من كل ذلك وهو تجريدها من عضوية مجلس الأمن، كخطوة أخيرة في محاولة عزلها دولياً.
ولكن الجانب الروسي تنبّه إلى هذه المسألة مباشرة، حيث أكد نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي كونستانتين كوساتشيوف استعداد بلاده للتعويض عن الحبوب الأوكرانية بشكل كامل في السوق العالمية، مشيراً إلى الحصاد الضخم في البلاد، الأمر الذي يمكّن بلاده من تعويض الحبوب الأوكرانية بالكامل في السوق العالمية، حيث تم بالفعل إرسال حوالي 10.5 ملايين طن من الحبوب الروسية إلى دول آسيا وأفريقيا.
ومن هنا أكد كوساتشيوف أن العقوبات المفروضة على روسيا تستهدف الأشخاص الجائعين في العالم، وتحول دون توفير موسكو للحبوب والأسمدة بالقدر الكافي.
ومع العلم أن الصفقة التي وقعت عليها كل من روسيا وأوكرانيا وتركيا وهيئة الأمم المتحدة تتضمّن وثيقتين تتعلقان بمشكلة إمدادات الغذاء والأسمدة للأسواق العالمية، في 22 تموز الماضي بإسطنبول، فقد كان من المفروض التزام الأمم المتحدة بإزالة القيود المختلفة على تصدير المنتجات الزراعية والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية، مقابل تصدير المنتجات الزراعية الأوكرانية من موانئ البحر الأسود، التي تسيطر عليها أوكرانيا، غير أن ذلك لم يتمّ على الأرض.
وفي المحصّلة، هناك عمل ما أدّى بشكل إجباري إلى إيقاف العمل بصفقة الحبوب من أجل اتّهام روسيا بعرقلة تنفيذها، وبالمقابل هناك استعداد روسي لتعويض النقص الحاصل من خروج الحبوب والمنتجات الزراعية الأوكرانية من الأسواق العالمية، وهذا الأمر يمكن أن يفرّغ المساعي الغربية من مضمونها، حيث لا يستطيع الغرب الادّعاء بأن روسيا تعرقل توريد الغذاء إلى العالم، بل يؤكّد من جهة ثانية أن الغرب هو الذي يسعى فعلياً إلى وضع العالم أمام أزمة غذاء خانقة في سعيه المحموم لاتهام روسيا بعرقلة إمدادات الحبوب.
ولكن الأهم من كل ذلك، أن الغرب وخاصة واشنطن، قد تمكّن خلال الأشهر الماضية من استجرار كمياتٍ هائلة من القمح الأوكراني تحت عناوين متعدّدة، منها طبعاً دفع ثمن الأسلحة الغربية المورّدة إلى النظام في كييف، وهو يسعى جاهداً لإخراج روسيا من سوق الحبوب، وذلك للتحكم بأسعار الحبوب نهائياً وفرض سعره الجديد على العالم، تماماً كما فعلت واشنطن فيما يخص أزمة الغاز مع أوروبا.