مجلة البعث الأسبوعية

أزمة النخب السياسية الأوروبية …. بريطانيا أنموذجاً

البعث الأسبوعية- ريا خوري

نتيجة لمواقفها، وما طرحته من مشاريع اقتصادية ومالية في المملكة المتحدة، تقدمت ليز تراس باستقالتها من رئاسة الحكومة البريطانية بعد الانتقادات الحادة التي واجهتها، وواجهت مشاريعها المستقبلية. تلك الاستقالة كانت متوقعة حتى قبل توليها منصب رئاسة الوزراء، وتحديداً على وجه الدقة عندما أكدت كل المؤشرات والدلائل على ذلك عند انتخابها لرئاسة الحكومة البريطانية في عملية اختيارها خليفة لـ بوريس جونسن داخل حزب المحافظين الحاكم  في بريطانيا.

الحدث المفصلي الهام لا يجري في السياسة البريطانية التي باتت في حالة تخبط وعدم استقرار،  بل يحدث في العديد من دول الاتحاد الأوروبي خاصةً،  و دول القارة العجوز بشكلٍ عام ، وإن بدرجات متفاوتة من الاضطراب والقلق السياسي المصاحب للأزمات  السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إنما أهمية المملكة المتحدة أنها تعدّ نموذجاً للديمقراطية الغربية التقليدية التي تضرب جذورها عميقاً، لذا تجد تطورات الأوضاع في بريطانيا في دائرة الضوء واهتمام الدول، ربما أكثر من فوز اليمين  الشعبوي المتطرف في إيطاليا، والاضطرابات  وعدم الاستقرار في المجالات  السياسية والاجتماعية في فرنسا، وجملة السياسات التي يتبعها التحالف السياسي الغريب في جمهورية ألمانيا الاتحادية، وتبعاتها واستحقاقاتها الاقتصادية والاجتماعية، بل وحتى من أزمة قادة ومنتسبي الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية، واستعدادهم الكبير لخسارة انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي.

لو نظرنا بشكل أدق وأعمق لمجريات الأحداث في بريطانيا لوجدنا العديد من المبررات لما حدث لمنصب رئاسة الوزراء، فعلى الرغم من تراجع الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير، وتراجع دورها وتأثيرها السياسي في العالم بعد أن فقدت منظومتها الامبراطورية، نجد أن ما جرى لرئيسة الوزراء هو تعبير واضح وصريح على مسار الديمقراطية الغربية،  وما تعانية النخب السياسية في الغرب بأجمعه. منذ منتصف فترة حكم حزب المحافظين في المملكة المتحدة، التي بدأت قبل نحو إثني عشر عاماً، سيطرت على الحزب مجموعتين بارزتين من داخله، تمثلان بشكلٍ فعلي  نموذجاً على فقر الفكر السياسي، وشعبوية ويمينية  النهج العام وعنجهية وتعجرف، ومن رموز تلك المجموعات بوريس جونسون، ودومينيك راب، ومايكل جوف، وجاكوب ريس- موج وغيرهم.

لقد أدى احتكار تلك المجموعة من النخب السياسية مقدرات الأمور، وهي التي لعبت دوراً سلبياً أدّت إلى تفريغ الديمقراطية التقليدية من معناها ومدلولها، وساعد على ذلك  ضعف خواء  واهتزاز المعارضة السياسية التي لم تستطع الرقي إلى مستوى إقناع الجماهير البريطانية بأنها البديل الأفضل، خاصة حزب العمال الذي سبق أيضاً وأفرغه توني بلير، وغوردون براون من محتواه الأصلي، وأضحى حزباً ضعيفاً مترهلاً. والمفارقة في هذا السياق، أن معظم أحزاب اليسار الأوروبي وهنت وضعفت  وبلغت من التدهور والإنحدار ربما أكثر مما وصل إليه حزب العمال  يوماً ما ، وهذا ما قاد إلى فوز اليمين الشعبوي المتطرف  في انتخابات السويد وفرنسا وإيطاليا.

أما اليمين السياسي الغربي فنجده متشظياً فاقداً لقدرته على العطاء أيضاً، لتصبح فصائله  اليمينية المتطرفة الشعبوية والأكثر تطرفاً وانكماشاً على قوميات تعصبية، هي التي تقود الدول والحكومات، وتلك مشكلة النخبة السياسية الأوروبية بشكلٍ خاص، والنخب السياسية الغربية  بشكلٍ عام، وهي أخطر في تبعاتها وارتباطاتها على المدى المتوسط والطويل، حتى من الصراع مع روسيا والصين وحرب أوكرانيا الساخنة. وما الإبقاء على جذوة الحرب مشتعلة في أوكرانيا  وصب الزيت على النار بشكلٍ مستمر، إلا إحدى النتائج الجانبية لأزمة الديمقراطية الغربية وفقدان اتزان النخبة السياسية وضياع بوصلتهم وازدياد ذيليتهم للغرب الأمريكي. والأهم لكل تلك النخب السياسية الجديدة هو العنجهية والعجرفة والصلف، واستمرار ارتكاب الأخطاء بالجملة، وإلقاء تبعاتها واستحقاقاتها على أي مبرر آخر غير تصرفهم ورعونتهم وعدم اتزانهم .

إن ما جرى في بريطانيا هو مثال صارخ على ذلك، فمنذ الاستفتاء الذي جرى  عام 2016 على الخروج من الاتحاد الأوروبي “بريكست”، والذي تمكنت تلك المجموعة من النخب السياسية  في حزب المحافظين الحاكم من خداع الجماهير البريطانية بأن “بريكست” هو أفضل شيء لبريطانيا وشعبها، وسيحوّل حياة  الشعب البريطاني إلى رخاء اقتصادي عالي وغير مسبوق، حيث بنيت حملة الاستفتاء على البروبغندا الإعلامية التي تستخدم الكذب والتلفيق جوهراً استراتيجياً، والذي أثبتت المحاكم البريطانية، مؤخراً، أنها كذباً وتلفيقاً صريحاً أدى إلى تضليل الجماهير، واللعب على عقولها وضرب مصالحها .

يدرج معظم المتابعين والخبراء الاستراتيجيين أنه لا يمكن لتلك النخبة السياسية التي اقترفت تلك الأخطاء، أن تعترف أن الجذر الأساسي لكل مشاكل بريطانيا الحالية، والتي تتفاقم تلك المشاكل وتتناسل يوماً بعد يوم منذ ما قبل الحرب في أوكرانيا، هو “بريكست”، فكيف لها أن تلغي ما تعتبره إنجازها الرئيسي، وربما الوحيد في تاريخ السياسة البريطانية المعاصر. وهنا بالطبع سمة أخرى من سمات تلك النخب السلبية ، في بريطانيا وبقية الغرب الأوروبي- الأمريكي، وهي تقديم المصلحة الخاصة الأنانية ومصلحة الحزب الديمقراطي أو حتى الفريق الذي ينتمون إليه داخل الحزب على مصلحة بريطانيا وشعبها بشكلٍ عام  .

السمة الأخرى لبروز تلك المجموعات من النخب السياسية وصعودها في الغرب الأوروبي، هو الكشف التدريجي عن توجهات العنصرية المفرطة التي كانت مستترة تحت جلودهم، وتتخفى خلف غلالة من القانون والتشريعات الناظمة. وقد ظهر ذلك بشكلٍ واضح أكبر مع الحرب الجارية  في أوكرانيا، والتساهل أو التهاون مع تلك العنصرية في الإعلام وملحقاته من وسائل التواصل الاجتماعي، وبشكل علني يكاد يجعلها بعد فترة من الزمن أمراً مقبولاً بسهولة. ليست عنصرية مفرطة فقط تجاه “الآخر” من شعوب الدول غير الغربية، وإنما أيضاً من تلك المجموعات اليمينية المتطرفة الشعبوية السطحية تجاه بقية البشر من أبناء جلدتها.

كل ذلك يدفع بأسس وقواعد العملية الديمقراطية الغربية نحو الانحدار والانهيار تقريباً. ومثال ذلك، حين اضطر  رئيس الوزراء بوريس جونسون للاستقالة  بشكل قسري بعد تكرار انتهاكه للقوانين والتشريعات واللوائح الناظمة، واستمرائه الفضائح  والخروقات وتبريرها بأي شكلٍ من الأشكال، واختيار حزب المحافظين ليز تراس  خلفاً له التي استقالت قسراً، ليحل محلها ريشي سوناك وزير الخزانة السابق.