البركان الأوروبي على وشك الانفجار
ريا خوري
امتدت العمليات الإرهابية لتشمل السفن الروسية المحمّلة بالحبوب، ولا شكّ أن مثل هذا التطور يشكّل استمراراً للتصعيد العسكري المكثف الذي بدأ بتفجير جسر كيرش الذي يربط شبه جزيرة القرم بروسيا الاتحادية. وقد تزامن إعلان روسيا وقف صفقة الحبوب مع إعلان القيادة الروسية ضلوع بريطانيا في تفجيرات متتالية على خطوط أنابيب غاز “نورد ستريم” في بحر البلطيق بالقرب من السويد، كما اتهمت الحكومة البريطانية أيضاً بالمساعدة، من خلال خبراء ومهندسين عسكريين مختصين، بالتحضير لهجوم الجيش الأوكراني بالطائرات المسيّرة على شبه جزيرة القرم على خليج سيفاستوبول مقرّ أسطول البحر الأسود الروسي.
هذه الأحداث تأتي وسط الفوضى السياسية التي تعمّ العالم، كما تأتي وسط أزمة تضخم اقتصادي هائل تعمّ القارة الأوروبية، ونتجت عن العقوبات القاسية والجائرة التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على روسيا.
وعليه، نجد القادة الأوروبيين يتسابقون، ولأول مرة منذ سنوات طويلة، في توجيه اتهامات مباشرة للولايات المتحدة الأمريكية وقياداتها بالتسبّب بالأزمات الحادة التي تمرّ بها بلدانهم. ويتفوق في هذا المجال الرئيسان الألماني والفرنسي، وهما قائدا أقوى دولتين في القارة الأوروبية على الصعيد الاقتصادي والتجاري والمالي. كما تشتد الاتهامات والتلاسنات بشكلٍ مباشر وحاد بين القادة الأوروبيين أنفسهم، في وقتٍ تتأجج حالات الصراع والنزاع والتطرف القومي وظهور القوى اليمينية الشعبوية. والسؤال: أين نضع هذه التطورات المتلاحقة في خانة التحليل السياسي؟.
لقد أثبتت الدراسات والأبحاث ومجريات الأحداث أن التطور التاريخي للنظام الرأسمالي يظلّ حارساً ووفياً للحرية الاقتصادية، ولطالما كان مبدأ “دعه يعمل، دعه يمر” بمنأى عن الصراعات والنزاعات والأزمات. أما حين يصطدم هذا النظام بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بأزمات حادة ومستعصية، أياً كانت أسبابها ومسبّباتها، فإن الدولة التي يفترض فيها أن تكون متماسكة وقوية، وأن تكون بعيدة عن التدخل في الشؤون الاقتصادية وتوجيه حركتها وامتداداتها، سرعان ما تقفز فوق تنظيراتها وشعاراتها وممارساتها، وتتحوّل إلى ديكتاتورية من حيث تدخلها المباشر في شأن السوق.
إن ما حدث ويحدث الآن في القارة العجوز من تحولات سياسية كبرى مهمة ومفصلية، لمصلحة اليمين الشعبوي المتطرف، يعيد إلى الذاكرة من جديد الأزمة الاقتصادية الحادة التي شهدتها القارة عام 1928، والتي تحولت لاحقاً إلى أزمة عالمية لا تزال آثارها السلبية ماثلة إلى اليوم. لقد أدّت تلك الأزمة إلى بروز النازي هتلر في ألمانيا، والفاشي موسوليني في إيطاليا، وسالازار في البرتغال، وفرانكو في إسبانيا، وجميعهم وصلوا إلى سدة الحكم في أوقات متقاربة، والتزموا بنظام سياسي الفاشية والقتل والإجرام قاسمه المشترك. وكانت إحدى أهم نتائج وصولهم للحكم اندلاع الحرب العالمية الثانية المدمّرة التي أدّت إلى تغيير الخرائط السياسية في العديد من دول العالم. تلك الأنظمة الديكتاتورية لم يكن لها أن تصل مجتمعة إلى السلطة في الدول الأوروبية، وفي أوقات متقاربة جداً، لولا الأزمات الاقتصادية الحادة التي عصفت بالقارة الأوروبية العجوز منذ أواخر العشرية الثالثة من القرن الماضي.
إن ما جرى، وما يجري الآن، من صعود كاسح وواضح لأحزاب اليمين الشعبوي المتطرف في عموم القارة الأوروبية هو استحضار لما جرى قبيل الحرب العالمية الثانية، وكان ردّة فعل لأزمات اقتصادية حادة وعاتية، فهل سيعيد التاريخ نفسه على ما نرى من تساوق في الظروف والمواقف، وتفتح أبواب الجحيم مرة أخرى أقوى وأخطر مما سبق، انطلاقاً من القارة الأوروبية، في حرب مدمّرة تبدأ ولا أحد يعرف متى تنتهي؟.