نداء لصباحات بعيدة..!
حسن حميد
أعترفُ بأنني بتّ أتلهف وأحنّ إلى الكتاب العربي المطبوع في العواصم الثقافية العربية، فأعدّ الظفر به صيداً ثميناً، لأنه يقدّم صورة عن الإبداع العربي في هذا البلد أو ذاك، ويقف عند مستويات الإبداع الجديد، وما تفكّر به الأجيال المتتالية تترى، وما تأثرت به من قولات نقدية، وما اصطفته كتاباتهم من جماليات عرفتها فنون السينما والغناء والرقص والمسرح والموسيقا، وما نقّبت عنه في حوافظ الذاكرة والتواريخ التي مازال لها الكفاءة في التأثير وإثارة الأسئلة الثقيلة التي تبتغي الإجابات العميقة، وهل من تعالقات ومشتركات ما بينها وبين ما يكتب من إبداع في البلاد العربية الأخرى، وأين هي مواضع المثاقفة مع الآخر، وماهي الموضوعات الأكثر شدّاً لانتباه المبدعين.
أقول هذا، بعد أن انتهيت من قراءة كتاب الشاعر العراقي طلال الغوار، وهو كتاب سيرة عنوانه “نداء لصباحات بعيدة”، أراد من خلاله أن يُحقّب لجملة من السير التي تخصّ طفولته ويفاعته، وتأثير المكان فيهما، وما اصطبغتا به من عادات وتقاليد الريف العراقي.
طلال الغوار شاعر من شعراء الجيل الثاني بعد السيّاب، فتوارت همومه الإبداعية، وقناعاته بأن النص الأدبي حياة إبداعية كاملة، وأنه يؤرّخ للحياة، ويماشي الأحلام والغايات، ويروي ما يجول في العقل والقلب معاً، فيرسم الأمكنة، ويصوّر الشخصيات وهي في طوري القوة والضعف، لهذا فإنّ ما كتبه طلال الغوار من قصيد يليق به أن يلتحق بمدوّنة الشعر العراقي الذي حاكى في حضوره عمران الأمكنة، وامتلاء الأزمنة بالعراقة الإبداعية، وشغف النفوس بالقيم النبيلة السّامية!
في هذا الكتاب الجديد “نداء لصباحات بعيدة”، يلتفت طلال الغوار نحو عالم السرد، فيجتبي منه بهجة الحضور، ونداوة القول، وسحر الخيال، عبر انتباهات لسير الحياة التي عاشها في الريف العراقي وما فيه من بكورية، وألوان، وبراري، وعفوية، ودهشة لا تراها إلا العين النفوذ، ولا تحسّ بها سوى المشاعر الصافية التي لم تثلمها الضغائن والأنانية المتوحشة.
إنه يكتب انتباهات النفس وهي ترتطم بجمال الحكاية والسرد عبر التضاد الرّاعب ما بين سكينة الليل من جهة والعتمة المحشوة بالمخاوف الثقيلة من جهة أخرى، فيبدي تقاليد الحكاية وتعدّد الأصوات التي تقلّبها حتى تظهر جلية بكلّ ما فيها من حضور خرافي وعجائبي، وأسطوري، كيما تبدو حدود الضعف والقوة في آن.
وفي كتابه هذا أيضاً، يكتب طلال الغوار سيرة الأزمنة المتسارعة في مدينة كبيرة مثل بغداد، وهي تدهم الحياة الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، إنه يكتب عن البيوت، وأروقة الكتب، وحوارات الثقافة، وما فعله الزمن العجول بها من متغيرات، وتحولات طالت الكثير من ثوابتها في العادات والتقاليد، كما يكتب عن بغداد، وهي في عهدة الأفكار، والتحولات السياسية، والتيارات التي صبغت الحياة بصباغها.
كما يكتب طلال الغوار، في التفاتة مهمّة، عن أحوال الثقافة والإبداع، فيرصد حراك الشعر العراقي والعربي في آن، ويقف على حال الثقافة، وما فيها من كتب وأفكار وما تشتمل عليه من مؤتمرات وملتقيات، وما فيها من مشتركات مع المشاهد الثقافية العربية.
ثم يكتب عن مكابدات الكتابة، وشغف اقتناء الكتب، وصداقات المثقفين والشعراء والفنانين، فلا ينهي كتابه إلا عندما يقدّم صورة على غاية من الأهمية، لسيرة حياته الإبداعية من جهة، ولسيرة الحياة الثقافية في العراق التي لا ترضى إلا بالذرا الإبداعية المدهشة من جهة أخرى.
يكتبُ طلال الغوار في كتابه “نداء لصباحات بعيدة” سيرة الحنين للزمن العلوق بالقصيد المدهش، والإبداع الضافي، وسيرة الطفولة التي في طيّها كلّ جميل، وسيرة المكان الذي نعشقه مثلما نعشق الأحلام، إنها كتابة سردية وافية، يضيء الشعر فيها ذواكر الأمكنة والأزمنة.. والبشر.
Hhasanhamid55@ yahoo.com