مجلة البعث الأسبوعية

مشروع توثيق التراث

البعث الأسبوعية- سلوى عباس

استكمالاً لموضوع الزاوية السابقة التي تناولت برنامج “حكايات وأغاني ع البال” الذي كان الخطوة الأولى في مشروع تراثي كبير انطلقت فكرته من ضرورة الحفاظ على التراث من الضياع وأهمية توثيقه، هذا المشروع الذي اشتغل عليه الشاعر الراحل سعدو الديب ليعيد تشكيل السنين حيث تتألق الذاكرة بعبق التراث ويضج المكان بذكريات الأمس التي غيبتها زحمة الحياة وتراكماتها وكادت تذهب طي النسيان، فحاول عبر مشروعه هذا أن يمسح عن هذه الجواهر غبارها ويعيد لها لمعانها، لنسترجعها في وجداننا أنشودة من تراثنا المشرق بألوانه الغنائية التي تعطي صورة عن تراث كل محافظة سورية بما تتضمنه من قيم جمالية نفتقدها في ما نسمعه هذه الأيام من أغنيات ليس لها علاقة بالفن، خاصة وأن تراثنا شفاهي ويحتاج إلى توثيق، وكان الاعتماد الأكبر في هذا المجال على المسنين كشاهدين أساسيين على التراث، وعدد من الباحثين الذين تتوفر لديهم بعض المعلومات التراثية، وهناك بعض الأغنيات كان الشاعر الديب يقدم لها في برنامجه بأكثر من حكاية ليقف المشاهد على التأويل المقنع، وهناك الكثير من الأغاني والألحان الموثقة، فالدلعونا مثلاً موثقة منذ ما يقارب 3400 سنة تقريباً، من دلعونات آلهة الخصب والجمال عند الكنعانيين، حيث انطلقت الأغنية من هناك، وأيضاً الموليا موثقة من زمن العباسيين، وقد بدأ هذا اللون بالانتشار بصوت إحدى الجواري أيام معركة “الطف” وهناك ألوان غنائية متعددة ومتنوعة.

في أحد حواراتي معه أشار الشاعر الديب إلى تعرض تراثنا للسرقة، فهناك حوالي 90% من تراثنا مسجل بأسماء ولايوجد أي مبرر أن يسجل التراث باسم أحد، فأغنية “الروزنا” مثلاً هي أغنية سورية قديمة جداً ومجهولة الهوية، لكن لها حكاية، تعود لأيام العباسيين بحسب المصادر، كما سُجل للدلعونا أربعة عشر لحناً مختلفاً، هذه الألحان منتشرة في أنحاء العالم، وكل محافظة لها لحنها، لكن الدلعونا هي الدلعونا لاتختلف، ولدينا في سورية أعمال راقية جداً تحتاج فقط إلى من يتقن توظيفها واستثمارها، وهذا ما انتبه إليه الرحابنة الذين كانوا يحضرون أعراساً سورية ويسجلون على مسجل صغير كل الأغنيات التي يسمعونها من التراث ويقدمونها بطريقتهم وأسلوبهم البسيط والشفاف الذي لامس وجداننا جميعاً وعاش لنا وللأجيال القادمة.

كذلك سيد درويش أخذ من التراث السوري فأغنية “زوروني كل سنة مرة” هي من تراث محفظة إدلب وعمرها مايقارب الـ 170 عاماً، وهذا يعني أن اللحن مقتبس وليس من تأليف سيد درويش الذي عاش في سورية فترة طويلة، ومن الطبيعي أن يتأثر بتراثنا ويستنبط منه الكثير من الألحان له، فتراثنا عريق لكن من كتبه ولحنه بالتأكيد هم أشخاص ليسوا ملحنين ولا أكاديميين، بل صاحب هذا التراث فلاح كان يزرع أرضه وخرجت منه هذه الأغنية، ولعل الجمالية التي تتمتع بها الأغنية التراثية حتى تعيش مئات السنين وتبقى مستمرة حتى اليوم يعود لعدم التكلف والبساطة بالكلمة والجملة اللحنية وهي عوامل نجاحها واستمرارها، فقد ذهب الكثير من تراثنا ولكن بقي الأفضل.

إن مشروع توثيق التراث كان مشروعاً عربياً، لكن بسبب تكاليفه الكبيرة لم توجد جهة تتبنى هذه الفكرة فتم تجزئته بحيث يتم توثيق تراث كل منطقة على حدة، فالخليج يوثق مالديه من تراث وكذلك المغرب ومصر وباقي الدول العربية، والآن بسبب مايعيشه العالم من تخبطات وصراعات غابت ذهب هذا المشروع في مهب الريح وما من أمل في إعادة إحيائه.