مجلة البعث الأسبوعية

عبد الله فاضل “مترجم النسويات”: نحن خَدَم النص وسدنته وهذا ما أحاول تجسيده في عملي!!

البعث الأسبوعية ــ سلوى عباس

عبد الله فاضل شاعر ومترجم سوري ينتمي لإنسانيته قبل انتمائه لأية قيمة أخرى، مؤمناً أن الحوار والاختلاف مع الآخر هو الجوهر في فكره، وهو الطريق إلى التوافق، فيصوغ له رأياً يفتح الباب لسجال ثقافي مديد الأبعاد متمسكاً بمبادئ هي الأولى في الحياة وبعدها يأتي أي شيء، تلك المبادئ ينسجها كل يوم بصيغة جديدة تبعد عنها مواتها ونمطيتها لتشع بروح جديدة في فضاء الفكر والمعرفة، حيث قدّم إبداعاً متفرداً عبر مشروعه في الترجمة الذي يصوغه برؤية متكاملة ومنسجمة، وهذا دليل على صدق تجربته التي أعطاها نداوة روحه وعمره، وقد ارتقى بالترجمات التي حققها إلى مصاف الإبداع الحقيقي، فهو لا يترجم لأجل الترجمة فقط، بل ليؤدي دوره كمترجم شغوف ودؤوب وليصبح علامة فارقة في الترجمة، إذ ترجم عن الانكليزية عدداً من الكتب النسوية، هي: “اللغز الأنثوي” لبيتي فريدان، “المرأة المخصية” لجيرمين غرير، “نحو نظرية نسوية في الدولة” لكاترين أ.ماكينون، “الدليل إلى دستور متوافق مع منظور النوع الاجتماعي (الجندر)”، وشارك في ترجمة كتب أخرى: “دفاع عن حقوق المرأة” لماري ولستونكرافت، “القومية والنسوية في العالم الثالث” لكوماري جايا واردينا، “مقالات في النسوية”. وللوقوف على تفاصيل تجربته كان لنا معه هذا الحوار حيث حدثنا عن بداية علاقته مع الترجمة ومعايير اختياره للكتاب الذي يرغب بترجمته، وماذا أضافت له الترجمة:

قد تكون علاقتي مع الترجمة قديمة، بدأت مع بداية قراءة الكتب المترجمة، لكن ممارسة الترجمة جاءت لاحقاً، وهي تنقسم إلى مرحلتين أساسيتين: مرحلة الترجمة من باب الهواية، ولم تكن بقصد النشر، ثم جاءت المرحلة الثانية، وفيها صارت الترجمة مهنة، فتوّجت المرحلة الأولى بترجمة رواية جورج أورويل “الخروج إلى الهواء الطلق” التي لم تنشر إلا بعد ست سنوات، حين قررت أن الترجمة ستكون مهنة حياتي.

وبالنسبة لاختيار الكتب بقصد الترجمة فهو على الأغلب حصيلة اتفاق مع الناشر الذي له اعتباراته الخاصة. ومبدئياً، هناك ثلاثة عوامل تؤثر في اختياري، أو تفضيلي ترجمة كتاب ما: أن يكون الكتاب ممتعاً، وأن يتضمن قيمة معرفية، وأن يشكل تحدياً في الترجمة. أما ماذا أضافت لي الترجمة.. بالتأكيد أضافت الكثير، كالبحث والتنقيب في عالم الأفكار المُنتَجة في أمكنة أخرى، وأزمنة أخرى، وثقافات أخرى؛ تجارب أشخاصٍ، وتجارب شعوبٍ وجماعات.. أظنّ أن الترجمة جعلتني أغنى، وأرحب، وأوسع أفقاً.

هناك من يرى أن “الترجمة هي خلق جديد للنص بينما يقول آخرون “أن تكون مترجماً فأنت خائن” ويقصدون هنا “الخيانة الجمالية”.. هل لك وجهة نظر أخرى؟

أؤمن، مبدئياً، أنّ الترجمةَ خلقٌ جديدٌ للنص في اللغة الهدف، وقد تكون خلقاً مبدعاً يحقق معايير الجودة، وقد تكون عملاً رديئاً يسيء للنص الأصلي. أنا لست من أنصار فكرة “المترجم الخائن”، لكنني أعتقد أن الاختلاف بين اللغة التي كُتب فيها النص، واللغة التي تُرجم إليها، وكذلك الاختلاف بين الثقافة التي أُنتِج فيها النص والثقافة التي نُقل إليها، يفرضان، أو يتطلبان، انزياحاً ما، لأنه من المستحيل تطابق التعبير بين اللغتين والثقافتين، وهذا الانزياح يمكن التخفيف من آثاره، بما يقوم به المترجم من شرح، أو إضافة حواشٍ توضيحية، أو استخدام أية أدوات أخرى تجعل وصول النص المترجم إلى قارئه في اللغة الهدف شبيهاً بوصوله إلى قارئه في اللغة الأصلية. وهكذا، إذا بذل المترجم جهده لإيصال النص على هذا النحو، فلا أستطيع الحديث عن “خيانة النص”، أمّا إذا لم يبذل ذلك الجهد، فيمكن الحديث عن ترجمة رديئة أو حتى “قتل النص”، وللأسف، هناك ترجمات كثيرة في سوق الترجمة لا تحقق الحدّ الأدنى من معايير جودة الترجمة، وأظن أن بعضها يصل إلى درجة “الجريمة” بحق الكتاب المتَرجم، وأظنّ أن أي قارئ لهذا الكلام سيتذكر فوراً أمثلةً على كتبٍ لم يتمكّن من متابعة قراءتها نتيجة ركاكتها وسوء ترجمتها، وأحسب أن هذه واحدة من الحالات النادرة التي أتمنى لو أن فيها رقابة، رقابة تمنع نشر الكتاب المترجم الذي لا يحقق معايير الحد الأدنى من الجودة.

 هل يمكننا القول إنك استطعت خلال ترجماتك نقل النص بكافة ظلاله وإيحاءاته وإحالاته؟ وهل الترجمة عمل حرفي؟ أم أنه يسبر أغوار النصّ ليخلق نصاً جديداً؟

كان أحد أساتذتي يقول: نحن خَدَم النص وسدنته، وهذا ما أحاول تجسيده في عملي. أما الشق الثاني من السؤال “نقل النص بكافة ظلاله وإيحاءاته وإحالاته”، فيجعلني أتساءل: وهل هناك من يستطيع أن يزعم أمام نص إبداعي أنه فهمه بكل ظلاله وإيحاءاته وإحالاته؟! لندع الترجمة جانباً، ونتحدث عن النص في لغته الأصلية، أليس النص الإبداعي مفتوحاً على قراءات متعددة؟ أليست كل قراءة فهماً خاصاً للنص وظلاله وإيحاءاته؟ ألا يفاجئنا النقد الأدبي أو الفلسفي لكتب كثيرة بجديد بين حين وآخر؟ فإذا كانت هذه هي الحال في اللغة ذاتها، فمن الطبيعي أن تكون هذه هي الحال في الترجمة إلى لغة أخرى، فكل ترجمة قراءة، ولهذا، ربما، تتعدّد الترجمات، مثلما تتعدد القراءات.

هل تعتمد الحيادية في ترجماتك؟ أم إنك تتدخّل في النصّ.. وما نسبة تدخلك؟

الحيادية تتجلّى في تقديم النص كما هو، والوفاء له. ولكن الموقف من النص ليس حيادياً؛ هناك نصوص أحبها، وهناك نصوص توافق أفكاري وأهوائي، وهناك نصوص أختلف معها كليةً؛ مع ذلك، أبذل مع أي نص أترجمه “العناية الواجبة” لأعطيه حقه، وأترجمه ترجمة جيدة، وتدخّلي يكون خارج النص؛ في المقدمة أو في الحواشي السفلية التي تعمل مجتمعةً من أجل نصّ جيّد المقروئية، وأحياناً يتجلّى التدخل في اختيار الألفاظ، أو في تركيب الجملة، أو ربط الجمل.. الخ. وهو ما يمكن إدراجه تحت أسم أسلوب المترجم، فكما لكل كاتب أسلوبه، كذلك لكل مترجم أسلوبه أيضاً.

لماذا أطلق عليك لقب “المترجم النسوي”؟

هو لقب أطلقته عليّ صحفية صديقة، وأظن أن الدافع الأول هو أنني ترجمت مجموعة مهمة من الكتب والمقالات والأبحاث في مجال النسوية أو قضايا المرأة عموماً، وربّما أردت أيضاً القول إن قضايا المرأة ليست شأناً خاصاً بالنساء، بل هي شأن الرجال أيضاً، ويستطيع الرجل أن يكون نسوياً مثله مثل المرأة.

ما الصعوبة التي تواجهك في الترجمة؟ وإلى أي مدى تشعر أنه أصبح لك بصمتك في عالم الترجمة؟

الصعوبة الأولى تأتي من أنك في الترجمة لا تقولين أفكارك، بل تقولين أفكار شخص آخر أنتجت في سياق لغوي وثقافي مختلف، وربما في زمن مختلف أيضاً، وبأسلوب يخص الكاتب، فكيف يستوعب المترجم كل ذلك وينقله إلى اللغة الهدف.. صعوبة أخرى تظهر عند ترجمة نصوص في ميادين ليست مألوفة كثيراً في العربية، أو ربما جديدة تماماً، فيكون عليك فهم المفاهيم نفسها قبل ترجمتها، حتى أنك قد لا تعثرين على المصطلحات الملائمة، أو قد تواجهين “فوضى مصطلحات”، فيكون عليك أن تشتقي مصطلحاً جديداً، أو أن تختاري من بين ما هو متاح. كذلك هناك مسألة المعاني المستجّدة للكلمات المستخدمة، فترين استخداماً جديداً لا يستوعبه أي من المعاني المعجمية للكلمة، وهنا يتطلب الأمر بعض الجرأة، للسير في طريق غير مسلوك من قبل.

أما مسألة إن كانت لي “بصمة” خاصة في الترجمة أم لا، ربما تقدير هذا الأمر متروك للقارئ المدقق، لكن أحسب أنني بدأت أحقق ذلك عبر الحرص على جودة المادة المترجمة، وإتباع آليات تحقيق الجودة، والجهد الجماعي وأثره في جودة المنتج النهائي.

 هناك كتّاب يضعون شروطاً للموافقة على منح حق ترجمة رواياتهم أو كتبهم لمترجم ما إلا من خلال التواصل المباشر معهم، لإيمانهم بأن الترجمة هي عمل مواز للعمل الأدبي، هل صادفتك حالة كهذه؟

لو أن هذه هي الحال، لكان أثر هذا في الترجمة رائعاً، ولكن، لا أعتقد أن ذلك ممكن دائماً، لأنه يتطلب إمكانية التواصل بين المؤلّف والمترجم، وهذا قد لا يكون متاحاً دائماً، إذ قد يكون المؤلف متوفياً عند ترجمة الكتاب، وقد تكون الترجمة عن لغة وسيطة، وقد حدث معي في مرّات عديدة أن تواصلت مع المؤلّف مباشرةً عند الترجمة، وكانت النتيجة إيجابية جداً في جميع الحالات. كان التواصل مع المؤلف أحياناً للاستفسار عن أمور معينة لم أكن على يقين من أنني فهمت تماماً ما ترمي إليه، أو لأن خلافاً حدث من مدقق الترجمة، فذهب كل واحد منّا في اتجاهٍ في فهم جملة أو فكرة. وكان التواصل أحياناً لمعرفة المدى الذي يمنحه المؤلفُ لي في بعض الصياغات، ولا سيما عند الترجمة من العربية إلى الإنكليزية. وأخيراً، أحد أشكال التواصل كان عند ترجمة كتاب “المرأة المخصية” إذ اشترطت المؤلفة، التي لا تعرف العربية، أن تعرض الترجمة على شخصٍ من طرفها، ليقيّم الترجمة، فإن أجاز الترجمة أجازتها، وإلّا فلا.

 كيف هو تعاملك مع دُور النشر.. سواء من ناحية الرقابة والحذف أو التعامل المادي والمعنوي؟

أعتقد أن دار النشر أهم حلقة في عملية صناعة الكتاب. وحتى الآن، لم يحدث مع أي دار من دور النشر التي تعاملت معها أن قامت بحذف أي مقطع، وأقصى ما يمكن أن يحدث هو نقاشٌ حول بعض الخيارات في ترجمة جمل معينة، أو استخدام كلمات معينة، أو أية ترتيبات عملية أخرى.. لكن لم يحدث قطّ أن طلب مني ناشر أو ناشرة تغيير فكرة أو حذفها لأسباب رقابية.

أما فيما يخص التعامل المادي، أقول بصراحة: المترجم في بلادنا مغبون، فالأجر الذي يحصل عليه قليل جداً، مقارنة ببلدان أخرى، ومقارنة بحجم العمل والجهد اللازمين لتقديم ترجمة جيدة، ودور نشر كثيرة تتهرّب من عقد اتفاق مع المترجم يبيّن حقوق الطرفين المادية والمعنوية، ومن النادر أن ينصّ اتفاقٌ على حقوق المترجم في الطبعات اللاحقة من الكتاب، وهناك تفاصيل كثيرة، كالتعريف بالمترجم مثلاً، أو ذكر اسمه على الغلاف الخارجي، أو ذكر اسم المدقق.

 

ألم يخطر ببالك أن يكون لك مؤلفاتك الخاصة بك؟

حين يكون لدي ما أقوله، لمَ لا؟ أقوله، وليس من الضروري أن يكون في مؤلف أو كتاب. أكتب الشعر أحياناً، أكتب في أمور تخص الترجمة أحياناً، أكتب قراءات أو تأملات في بعض الكتب أحياناً أخرى. ربما داخل كلّ واحد منا ذات غنية، أو ذوات تعبّر عن نفسها بأشكال متعددة، أحدها الكتابة، وترغب إحدى “ذواتي” أن تتجلّى في الكتابة.