قوة تصنيعية عالمية وصادرات متنوعة… سر نجاح آسيا الاقتصادي
البعث الأسبوعية- ترجمة هناء شروف
على الرغم من أن جائحة كوفيد 19 كان لها آثار اقتصادية واجتماعية مدمرة على الدول في جميع أنحاء آسيا والمحيط الهادئ، إلا أنه لا يمكن إخفاء الإنجازات العظيمة التي حققتها المنطقة في التنمية الاقتصادية، واللحاق بالركب على مدى نصف القرن الماضي.
في الستينيات كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في آسيا النامية 330 دولاراً فقط (بالدولار الثابت لعام 2015). في ذلك الوقت كانت المنطقة تعاني من الفقر على نطاق واسع، وتكافح من أجل إطعام سكانها الكبير والمتزايد. جونار ميردال، الاقتصادي السويدي الذي حصل على جائزة نوبل للاقتصاد عام 1974 صور آسيا على أنها “أرض الركود الاقتصادي” مع تقدم بطيء واحتمال محدود للحاق بركوده في كتابه “الدراما الآسيوية” الذي نُشر عام 1968.
لكن بعد نصف قرن تطورت آسيا إلى منطقة تتجاوز خيال ميردال، حيث تعد آسيا الآن قوة تصنيعية عالمية مع صادرات متنوعة، وزيادة القدرة على الابتكار، والمدن المزدهرة، والقوى العاملة الماهرة الآخذة في التوسع. في عام 2021، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في آسيا النامية 5500 دولار (بنفس الدولار الثابت)، أي ما يقرب من 17 ضعفاً عن أوائل الستينيات، في حين تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ثلاث مرات خلال نفس الفترة.
كيف يمكن أن نفسر نجاح آسيا الاقتصادي؟
في نصف القرن الماضي على الرغم من أن عدداً قليلاً من الدول دمرتها الحروب، حافظت آسيا ككل على السلام والاستقرار، كما أدى السلام والاستقرار إلى نمو سكاني سريع، وزيادة نسبة السكان في سن العمل مما أدى إلى “عائد ديموغرافي”. وفي الوقت نفسه، خلقت سياسات التجارة والاستثمار المفتوحة للبلدان المتقدمة بيئة اقتصادية خارجية مواتية لآسيا، مما مكن المنطقة من الاستفادة بشكل كبير من التقدم التكنولوجي والعولمة، كما أتاح التقارب بين الاقتصادات فرصاً للنمو السريع.
ومع ذلك فإن السلام والاستقرار والعوائد الديموغرافية والبيئة الخارجية المواتية وحدها لن تؤدي بالضرورة إلى نمو اقتصادي سريع، حيث يشير كتاب حديث أصدره بنك التنمية الآسيوي بعنوان “رحلة آسيا إلى الازدهار: 50 عاماً من السياسة والسوق والتكنولوجيا” إلى أن نجاح آسيا الاقتصادي على مدى الخمسين عاماً الماضية يرجع إلى سياساتها الاقتصادية السليمة ومؤسساتها الفعالة.
ويضيف الكتاب أن النهج العملي لتنفيذ الإصلاحات السياسية، والقدرة على التعلم من نجاحاتها وإخفاقاتها، وكذلك من نجاحات الآخرين كان وراء نجاح المنطقة. وقد اتبعت الاقتصادات الآسيوية الناجحة جميعاً السياسات اللازمة لتحقيق النمو المستدام، وتشمل هذه السياسات:
- الاعتماد على آليات السوق، والمؤسسات الخاصة لدفع النمو بدعم استباقي من الدولة لمعالجة فشل السوق.
- تعزيز تنمية الصناعة مع تحديث الزراعة وتطوير الخدمات وتشجيع المدخرات المحلية وتراكم رأس المال ودعم الابتكار التكنولوجي والارتقاء به وبناء رأس المال البشري.
- اعتماد أنظمة التجارة والاستثمار المفتوح في البنية التحتية مما أدى إلى الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي.
- تعزيز الشمولية الاجتماعية والمساواة بين الجنسين والمشاركة مع شركاء التنمية وتعزيز التعاون الإقليمي.
يربط بعض العلماء التنمية الآسيوية بما يسمى بنموذج الحكومة التنموية، ويعزون النجاح الاقتصادي للمنطقة إلى دور التدخلات الحكومية. ومع ذلك فإن استعراض تجارب التنمية الآسيوية في نصف القرن الماضي يشير إلى أن الإصلاحات الموجهة نحو السوق، والانفتاح على العالم الخارجي كانت متبوعة دائماً بنمو اقتصادي سريع سواء في اقتصادات النمور الأربعة في الستينيات، وفي ماليزيا وتايلاند وإندونيسيا منذ السبعينيات، أو في الصين وفيتنام والهند من الثمانينيات والتسعينيات. لقد بدأ النمو يتسارع في هذه الاقتصادات عندما تحولت سياسة التنمية من التي تقودها الحكومة إلى السوق.
بالمقارنة مع الدول والمناطق الأخرى، تبنت الدول الآسيوية نهجاً أكثر تدرجا ًوواقعية لتنفيذ الإصلاحات، بما في ذلك إجراء تغييرات في السياسات قبل التنفيذ الكامل وتدابير الإصلاح المتسلسلة بعناية. على سبيل المثال، أقروا بأن تحرير حساب رأس المال يجب أن يفترض مسبقاً تنمية كافية للقطاع المالي المحلي. لقد شكلت الأزمة المالية الآسيوية انتكاسة كبيرة للمنطقة، لكن تعلمت الدول الدروس وبذلت جهوداً كبيرة في إصلاحات ما بعد الأزمة.
لقد استخدمت العديد من البلدان الآسيوية ما يسمى بالسياسات الصناعية المستهدفة لتعزيز التصنيع بما في ذلك تدابير مثل التعريفات والإعانات والائتمان التفضيلي والحوافز الضريبية التي تدعم صناعات أو شركات معينة. كانت هذه السياسات مثيرة للجدل للغاية، وفقدت مصداقيتها بعد الأزمة المالية الآسيوية، حيث تم اعتبارها أحد الأسباب الجذرية للأزمة، لكن الحقيقة هي أن السياسات الصناعية المستهدفة لعبت دوراً مهماً في تطوير صناعات جديدة، وغير تقليدية في العديد من الاقتصادات الآسيوية عالية الأداء، وذلك على الرغم من أن هذه السياسات لم تكن ناجحة دائماً.
يعتقد الكثيرون أنه إذا تم استخدام السياسات الصناعية المستهدفة بشكل غير صحيح، يمكن أن تؤدي إلى السعي وراء والمنافسة غير العادلة وعدم الكفاءة. ومع ذلك إذا تم استخدامها بحكمة، أي إذا كانت قائمة على الأداء وتعزيز المنافسة العادلة وتأتي مع أهداف واضحة وقواعد تنفيذ شفافة، يمكن أن تكون هذه السياسات فعالة في تسهيل التنمية والتحول الهيكلي. كما يعتقد الكثيرون أيضاً أنه عندما يصبح بلد ما أكثر تطوراً يجب أن تركز السياسات الصناعية بشكل أكبر على دعم الابتكار الأقل تشويهاً.
يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في آسيا النامية اليوم 15 في المائة فقط من متوسط منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي. ولتضييق فجوات التنمية بشكل أكبر، يجب أن تستمر آسيا في اتباع سياسة سليمة وبناء مؤسسات قوية، ويجب أن تبذل الدول جهود متواصلة للقضاء على الفقر، وتقليل التفاوتات في الدخل وتعزيز المساواة بين الجنسين، وتعزيز حماية البيئة ومكافحة تغير المناخ، وزيادة الاستثمار في الرعاية الصحية والتعليم والكهرباء ومياه الشرب الآمنة.
قبل خمسين عاماً كان غالبية الآسيويين يعيشون في دول منخفضة الدخل، أما اليوم يعيش أكثر من 95 في المائة من السكان الآسيويين في الدول ذات الدخل المتوسط. يعتبر الانتقال من الدخل المتوسط إلى الدخل المرتفع أكثر صعوبة بطبيعته. بالمقابل، في أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال، بقيت العديد من الدول في مرحلة الدخل المتوسط لفترة طويلة جداً، وهي عالقة فيما يسمى بفخ الدخل المتوسط. في آسيا لم ينجح سوى عدد قليل من الاقتصادات في الانتقال من الدول ذات الدخل المتوسط إلى المرتفع في الخمسين عاماً الماضية .
يتطلب النجاح في الانتقال من الدخل المتوسط إلى الدخل المرتفع تغيير نموذج النمو من الاعتماد على الموارد إلى الابتكار، وهذا يعني زيادة الاستثمار في رأس المال البشري، والبحث والتطوير، وتعزيز المنافسة، وحماية حقوق الملكية الفكرية.
يتوقع بعض الناس أن تشكل آسيا على الأرجح أكثر من نصف الاقتصاد العالمي بحلول عام 2050، ويسمون القرن الحادي والعشرين على أنه “القرن الآسيوي”. هذا أمر مشجع، ولكن لا تزال هناك العديد من العقبات التي يتعين على الدول الآسيوية التغلب عليها لتحقيق هذا الهدف.