ذكريات محمد قرانيا في اتحاد الكتاب العرب
حلب – غالية خوجة
في بادرة تعتبر الأولى من نوعها، أقام اتحاد الكتّاب العرب – فرع حلب مجلس عزاء للأديب محمد قرانيا (1941 – 2022)، استذكر خلاله الحاضرون الأدباء الذين فقدتهم مدينة حلب، ثم تداولوا بعض الأحداث والمآثر والمواقف اليومية للمرحوم قرانيا مع الناس والمجتمع والأصدقاء، وكيف كان طيباً ومتواضعاً وافتقده حتى عامل النظافة في حيّه لأنه كان يعامله باحترام.
وتمّ التعريج على سيرته الأدبية المتجاوزة لخمسين كتاباً، ولاسيما تلك الأعمال الموجّهة للأطفال، بين قصة ومسرح، والعديد من الدراسات في هذا المجال، وكيف أسّس وأدار فرع اتحاد الكتّاب في إدلب منذ إنشائه حتى 2002، كما كان مقرّر جمعية أدب الأطفال، إضافة لنيله العديد من الجوائز والتكريمات.
تمنيتُ لو أن العزاء تضمّن ندوة لقراءة ومناقشة بعض أعماله، لذا، أقترح أن تتضمن مجالس العزاء الخاصة بالأدباء في فروع الاتحاد نشاطاً أدبياً أيضاً يحايث جلسة العزاء الاجتماعية، وأن تكون إضاءة على السيرتين الحياتية والأدبية للكاتب المتوفى، متضمنة قراءة بعض كتاباته، وقراءة نقدية لأعماله، مع مشاركة الحضور بآرائهم في هذه المسيرة.
وأجدني أستذكر معكم مقالة وقصة للكاتب محمد قرانيا، متوقفين أولاً مع مقالته “ظاهرة اللون في القرآن الكريم” (مجلة التراث العربي، العدد 70، 1998)، وكيف شابك دلالات الألوان الستة: الأخضر، الأصفر، الأبيض، الأسود، الأحمر، الأزرق وأبعادها النفسية والروحية، متوقفاً عند وظائفها المختلفة مثل التعبيرية، الرمزية، الحسية، الجمالية التزيينية.
ولنذهب، ثانياً، إلى قصصه القصيرة من خلال “الوطن الذي يستوطن الأصابع” (مجلة المعرفة، العدد 441، 2000)، والتي نتبيّن منها أنه يكتب كما يحكي، ببساطة وسلاسة، وينقل بسرد مشهدي ما يعبّر من زاوية تبئير الرائي العالم بكلّ شيء، إلى السرد بأثر رجعي “فلاشباك”، ليضع القارئ أمام الواقع الذي يرسمه بصورته الواقعية مع كمون البطل خلف الصخرة وهو ينظر لساعة يده، ليشير إلى أنه على موعد ما، وفي حالة انتظار يمضيها بتأمله للأشجار وذكرياته مع البساتين والعصافير، ثم يميل مع قلبه والقارئ باتجاه ابنة عمه ليلى الخجلى، وكيف علق الشوك بإحدى قدميها وهي تقفز على قدم واحدة، ليقول لها: “الشوكة لا تنغرز إلاّ في القدم الغضة، شوك الأرض عبّر عن تعلقه بصاحبه”.
ورغم ذلك، “كان يرى المستقبل سديمياً، فالحالة المضطربة التي تجتاح الوطن تقضّ مضجعه”، ويكمل السارد من ذاكرته الأحداث التي تصل إلى شتائم بينه كبائع خضار في السوق، وبين “شرطي السلطة” الذي ردّ “بشتيمة مقذعة، وأخذ يجمع الخضار لينقلها إلى سيارة البلدية”، ليتبيّن لنا أن البطل يسرد مسلسل ذكرياته بين اللد والرملة ومعاناته كسائق عمل في الخليج، وكيف حدثه “الحرباوي” يوماً: “يا أخي، إذا كنا لا نستطيع أن نحارب، فلماذا لا نصالح ونرتاح؟”.
وبين المشاهد تحضر كريستينا الأمريكية التي تراوده عن نفسه، ليتذكر أنه “شاهدها أكثر من مرة ترافق السياح إلى أريحا، تدخل معهم منطقة الآثار”، فأغرته في تلك الليلة بمائة دولار لكنه مزقها فوق رأسها وغادر إلى قبوه مجهشاً بالبكاء.
وتتوالى الأحداث لتكشف لنا عن “الحرباوي” المتظاهر بالهبل، لكنه الذئب الحقيقي الذي نصب له هذا الفخ مع كريستينا، كما تبيّن لنا الأحداث والحوارات، وكيف كان وفد من المحتلين سيحضر المؤتمر الاقتصادي في الفندق الذي يعمل فيه، ولم يكن يعلم بماهية الوفد إلا عندما جاء دور رفع علمه، فتمرد البطل على الحرباوي، وغضبه ذكّره بأنه منقسم إلى نصفين: نصف في اللد مع أمه وليلى، ونصف في الشتات؛ وتذكّر أنه الآن في المقهى بين أصوات الناس والدخان، وما إن يدير رأسه إلى التلفاز حتى يرى بيت عمه يهدمه الاحتلال بينما ليلى وأمها تقاومان، فيغمى عليه، ليجد نفسه حالماً يستيقظ في بيت الحرباوي فيرجوه ليساعده على الوصول إلى لبنان، وعندما يعود البطل من حكاياته “الفلاشباكية” يكشف لنا أنه على الصخرة فوق جبل مرتفع يحاول أن يسدّد الهدف، فيصيبه لكن دمه يحوله إلى زهر رمان، ويلمح ليلى فيقول لها: “أنا هنا يا ابنة عمي”.
توضح لنا القصة كيف عايش قرانيا البطل الفلسطيني بأبعاده النفسية وتمرده وطموحاته وأحلامه بتشويق يخرج من الذاكرة لينتثر من خلال الاستشهاد مع الحياة.
أخيراً، لا بد من أن أشير إلى أن محمد قرانيا أصدر كتباً من إعداده موجهة لليافعين مثل “دمشق.. معالم وتاريخ”.