الاتحاد الأوروبي على موعد مع زلزال سياسي
هيفاء علي
رصد المراقبون مؤخراً علامات غضب وتوتر فرنسي وإيطالي ظهرت إزاء بعض الملفات، وهذا الغضب عبّر عنه في بعض الحالات كبار مسؤولي البلدين صراحةً، ويظلّ بعضه الآخر في الكواليس، وقنوات ثنائية ومتعدّدة الأطراف.
وبحسب هؤلاء المراقبين، هناك ملفات خلافية من شأنها أن تهدّد تماسك التكتل الأوروبي مستقبلاً، وفي مقدمتها مسألة الهجرة واللاجئين، حيث عاد هذا الموضوع ليطفو مجدداً على سطح العلاقات الفرنسية الإيطالية، ويكون سبباً في توتر كبير بين البلدين الأوروبيين، وتبادل الاتهامات بين الطرفين، حيث كانت البداية برفض إيطاليا بقيادة حكومة جديدة يمينية متطرفة استقبال سفينة “أوشن فايكينغ” الإنسانية لإنقاذ المهاجرين يوجد على متنها 234 مهاجراً من جنسيات مختلفة.
فقد رفضت إيطاليا استقبال السفينة العالقة في البحر المتوسط، ما دفع بعض المهاجرين إلى الدخول في إضراب عن الطعام، ولم يُسمح بنزول إلا من هم في حالة صحية سيئة بشكل واضح، رغم أن القانون الدولي والاتفاقيات الأوروبية تنصّ على ضرورة استقبال السفن الإنسانية. وهذه ليست المرة الأولى التي تمنع فيها إيطاليا سفناً إنسانية من الرسو في موانئها، إذ اضطرت سفن إنسانية عدة لإجراء مفاوضات صعبة في الفترة الأخيرة من أجل إنزال المهاجرين غير النظاميين من على متنها، مع الحكومة الإيطالية اليمينية التي تعهّدت بتبني موقف صارم حيال المهاجرين. وتبرّر الحكومة الإيطالية رفضها بتحميل الدولة التي تحمل السفن الإنسانية علمها كامل المسؤولية عن اللاجئين، أي أنها تقصد الدول التي سجلت السفن بها، فإن كانت السفن مسجلة في فرنسا فباريس مسؤولة عن اللاجئين، وإن كانت مسجلة في ألمانيا فبرلين هي المسؤولة.
فرنسا اعتبرت هذا الرفض الإيطالي لاستقبال السفن الإنسانية، وخاصة سفينة “أوشن فايكينغ” التي تحمل العلم النرويجي، أمراً غير مقبول تخلّ بموجبه روما بـ”التزاماتها الأوروبية”، ولاسيما أنها في الواقع المستفيد الأول من آلية التضامن المالي الأوروبية.
وإلى جانب انتقادها التصرف الإيطالي، سمحت فرنسا برسو السفينة بميناء مدينة تولون جنوب البلاد، بعد ثلاثة أسابيع من التجوال دون جدوى بحثاً عن ميناء آمن في إيطاليا، لتنتهي بذلك معاناة مئات المهاجرين العالقين في السفينة.
وأوضح رئيس الهيئة الحكومية الفرنسية المعنية بالتعامل مع الأجانب أن تسع دول من الاتحاد الأوروبي وافقت على استقبال ثلثي المهاجرين وهم: ألمانيا ولوكسمبورغ وبلغاريا ورومانيا وكرواتيا وليتوانيا ومالطا والبرتغال وأيرلندا، على أن يتمّ إعادة الأشخاص غير المؤهلين للبقاء في التكتل إلى بلدانهم الأصلية. بالتوازي مع ذلك، قرّرت فرنسا التعليق الفوري لمشروع كان مقرراً الصيف القادم، وهو استقبال 3500 لاجئ موجودين حاليّاً في إيطاليا، وأكد وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان قائلاً: “ستكون هناك عواقب وخيمة جراء الموقف الإيطالي على علاقاتنا الثنائية”.
من جهتها، اعتبرت سلطات روما التهديدات الفرنسية الأخيرة استهدافاً مباشراً لها، إذ استنكر وزير الداخلية الإيطالي ماتيو بيانتيدوسي القرار الفرنسي باتخاذ إجراءات انتقامية بحق روما لرفضها السماح لسفينة تقلّ مهاجرين بالرسو في موانئها، ما أجبر باريس على استقبالها معتبراً القرار الفرنسي “غير مفهوم تماماً”. في حين أدانت اليمينية المتطرفة جورجيا ميلوني ما سمّته “رد فعل عدائي وغير مفهوم وغير مبرر” من السلطات الفرنسية.
واقع الأمر، وبحسب المراقبين، تخشى السلطات الإيطالية أن تكون العواقب التي تحدثت عنها فرنسا تتعلق بأموال كورونا، وهو ما دفع جوفان باتيستا فاتزولاري، الذي يعدّ أحد أقرب مساعدي ميلوني إلى تحذير باريس من تقييد قدرة بلاده على الحصول على أموال الاتحاد الأوروبي المخصّصة للتعافي من وباء كورونا، حيث تعدّ إيطاليا المستفيد الأبرز من بين دول الاتحاد الأوروبي مما يُسمّى الصندوق الأوروبي للتعافي والمرونة، إذ تمّ تخصيص 191.5 مليار يورو لروما، وهو فرصة لروما لإنقاذ اقتصادها المتهالك، وأي مسّ به سيزيد من متاعب الحكومة.
هذا ولا تقتصر الخلافات بين روما وباريس على مسألة الهجرة فقط، إنما تمتد أيضاً إلى العديد من الملفات الخارجية، أبرزها الملف الليبي، فلكل دولة موقف معيّن بالنسبة للأزمات الإفريقية، ما جعلها تتصادم في العديد من المرات. وسبق أن سحبت باريس سفيرها في روما سنة 2019 احتجاجاً على تصريحات مسؤولين إيطاليين اعتبرتها “متجاوزة لكل الحدود”، انتقدت السياسة الفرنسية في إفريقيا وليبيا، واتهمت الحكومة الإيطالية حينها فرنسا بالعمل على إبقاء الوضع عما هو عليه في ليبيا، كما اتهمتها بتفقير القارة الإفريقية بسبب استغلال ثرواتها منذ عقود طويلة.
بالمقابل، ترى السلطات الإيطالية أن فرنسا السبب الأبرز في تأزم الوضع في ليبيا، وفي تفقير إفريقيا ونهب ثروات القارة السمراء، وهي السبب في ارتفاع عدد المهاجرين غير النظاميين المتجهين نحو السواحل الإيطالية. وقد دعا زعيم حزب “رابطة الشمال” المتطرف ماتيو سالفيني الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على دول منها فرنسا، بتهمة “إفقار إفريقيا” ودفع المهاجرين للجوء إلى أوروبا من خلال سياساتها الاستعمارية.
في مقابل ذلك، تتهم باريس مسؤولين إيطاليين بالتدخل في شؤونها الداخلية، ومساندة الاحتجاجات المناوئة لحكومة ماكرون، خاصة وأن زعيم حركة “خمس نجوم” لويجي دي مايو المشارك في الحكومة اليمينية المتطرفة، عبّر عن دعمه لمتظاهري “السترات الصفراء” في فرنسا، ولم يكتفِ دي مايو بالدعم الشفوي، بل أرسل رسالة دعم لمحتجي “السترات الصفراء” وهي المرة الأولى التي يرسل فيها مسؤول رسمي داخل إحدى الدول الأوروبية رسالة يعبّر فيها بصراحة عن دعمه لحركة احتجاجية تطالب بإسقاط الحكومة في دولة أوروبية أخرى. الموقف نفسه اتخذه لويجي دي مايو الذي شغل منصب وزير خارجية إيطاليا في الحكومة الماضية، حيث التقى في ضواحي باريس بمسؤولين عن حراك “السترات الصفراء”، وهي رسالة لماكرون تفيد بدعم ساسة إيطاليا للحراك الاحتجاجي ضده.
لذلك اعتبرت فرنسا هذه التحركات والتصريحات الإيطالية تدخلات وهجمات غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن روما لم تتراجع عن موقفها وأصرّت عليه، وجدّدت التدخل في مرات عديدة. ويتوقع المراقبون أن يزداد التوتر بين البلدين أكثر فأكثر، وخاصة مع وصول حكومة تحالف يمينية إلى السلطة في إيطاليا، ومن المنتظر أن يعقّد اليمين المتطرف العلاقات بين روما وباريس التي خسرت حليفاً داخل البرلمان الأوروبي. ومن شأن توتر العلاقات بين البلدين أن يؤدي إلى زلزال داخل الاتحاد الأوروبي الذي يشهد بدوره أزمات كبرى بين العديد من أعضائه، نتيجة الخلافات الكبيرة وتباين زوايا النظر بخصوص قضايا إقليمية عديدة!.