“الحرب الناعمة”.. مصطلح يطفو على السطح لحل أزمة أوكرانيا
البعث الأسبوعية – سياسة – ريا خوري:
كانت استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية تدعوا لاستخدام فائض القوة، وما يسمى “دبلوماسية المدفع” في علاقاتها الدولية من أجل بسط هيمنتها على العالم، لكن ما نشهده هذه الأيام من حالة وهن وضعف وارتباك في البنى السياسية والاقتصادية والعسكرية الأمريكية قد أفضى إلى استبدال دبلوماسية المدفع بالدبلوماسية الناعمة التي أرسى مصطلحها المفكر الأمريكي الشهير جوزيف ناي الذي كان أوّل من صك تعبير “القوة الناعمة” عام 1990 .
الآن وبعد مضي نحو عشرة أشهر ونيّف على الحرب الأوكرانية، بدأ مصطلح الحرب الناعمة يطفو على السطح من أجل حل أزمة أوكرانيا المتشابكة والمعقدة، لأنه مع وصول التيار الغربي الأمريكي – الأوروبي إلى العديد من المآزق الاقتصادية، بدأت تلك الدوائر تبحث عن مفاعيل القوة الناعمة ومكوناتها، وهذا يعني بوضوح تام استخدام ما تمثله تلك القدرة وتلك القوة من جاذبية لدى الآخرين المعنيين، وليس عن طريق الإجبار والإرغام .
لقد أثار المفكر الأمريكي جوزيف ناي من خلال مقالةٍ كتبها مؤخراً، ردود فعل عالمية كبيرة حين قال: “القوة الناعمة بعد أوكرانيا، الحرب لا تزال في أوج اشتعالها ولا أحد من الأطراف المتصارعة يعرف متى تنتهي”، حيث أكد أكثر من مرة أن الزعماء السياسيين العقلانيين كثيراً ما فهموا بعمق شديد أن القيم والمبادئ يمكن أن تزّود المتحارب بالقوة، في حالة ما إذا أرادت دفع خصمها لأن يقوم بما لم يكن يريد أن يقوم به.
إنّ طرح هذه الآراء في هذا الوقت العصيب، دفع عدد كبير من الخبراء والاستراتيجيين والمحللين السياسيين وأصحاب الشأن للتساؤل عما الذي يحدث في العالم، وهل يمكن إيجاد وسيلة أو طريقة لإنها أزمة أوكرانيا التي وصفها الكثيرون بأنها كابوس جثم على صدور الدول، وأحبط من عزيمتها وشلّها تماماً، وأعاق تقدمها وتطورها، وأغرقها بمزيد من الأزمات والمآزق؟.
وهكذا واستناداً لما كتبه المفكر جوزيف ناي الذي ربط بمفهومه المسبق عن القوة الناعمة أن تكون الوجه الآخر للقوة المدمرة بمعناها التقليدي كوسيلة للتأثير على سلوك الآخرين المعنيين بمجريات الصراع في أوكرانيا واستحقاقاته، وأن تستطيع بالقوة الناعمة أن تستخلص منهم ما تريده وما ترمي إليه. والقوة الناعمة حسب مفهوم جوزيف ناي، تعني جذب الطرف الآخر وربطه بتحالف جديد من نوع خاص، باستخدام مكونات القوة الناعمة مثل جاذبية الثقافة بكافة مكوناتها وتلاوينها إن كانت أدبية، وفنية، وإبداع إنتاجي ينتشر في جميع أنحاء العالم.
في هذا السياق يمكن أن نستخلص أن الحالة الصعبة الراهنة جراء الحرب في أوكرانيا تؤكد أنه إذا كانت إرادة قوة كبيرة أو قوى عسكرية واقتصادية وسياسية كبيرة أن تجعل الآخرين تقبل ما تريده، فليس مطلوباً أن إرغام تلك الأطراف على فعل ما لا تريده، وتلك هي نفس صورة الحرب الساخنة الجارية الآن في أوكرانيا.
لقد كشفت الحرب في أوكرانيا عن خلافات كبيرة وتناقضات هائلة داخل التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ليس فقط في المجالات العسكرية والأمنية فقط، بل في الاقتصاد والسياسة أيضاً، وهي خلافات باتت تنذر بتفكك هذا التحالف الذي بدأ يتصدّع شيئاً فشيئاً، إذا لم تسارع الأطراف المعنية بالصراع إلى إيجاد الحلول المناسبة والتسويات الملائمة لها قبل فوات الأوان، وقبل تفاقم الصراع الذي يمكن أن يصل إلى حالة لا يحمد عقباها .
الجدير بالذكر أنّ القادة السياسيين والعسكرين يمكنهم أن يأخذوا الدروس والعبر من أسباب نشوب الحرب العالمية الثانية، فقد بقيت أوروبا ولسنوات طويلة تعتمد في سياستها الدفاعية على حليفها القوي الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت توفر لها الحماية الأمنية الضرورية تحت مظلة حلف شمال الأطلسي (الناتو) مع وجود نوع معيّن من التكامل الاقتصادي، وإن لم يكن يخلو من خلافات وتباينات غالباً يتم اللجوء إلى تسويات سريعة لها عبر المحاكم الدولية والمفاوضات الدبلوماسية كي لا تتحول إلى تهديد جدي للعلاقات بين الدول المتحالفة.
لقد أثبتت الحرب الدائرة في أوكرانيا أنّ وحدة الموقف الغربي الأوروبي – الأمريكي ظاهرياً تجاه أوكرانيا كانت تحمل في طياتها خلافات حادة غير مسموعة، وغير معلنة، بسبب هيمنة القرار الأمريكي على أوروبا وتحديداً على دول الاتحاد الأوروبي، غير أن العقوبات الغربية القاسية على روسيا وتداعياتها، وأزمة الطاقة الناجمة عنها انعكست بشكل سلبي على القارة العجوز التي كانت تحاول النهوض من حالة ركود اقتصادي حاد تسببت بها سنوات جائحة كوفيد 19، وبالتالي فقد بدأت تظهر تداعيات واستحقاقات هذه العقوبات على المجتمعات الأوروبية بكافة مستوياتها التي لجأت وما زالت تلجأ إلى الشارع للاحتجاج والتظاهر ضد ساسة بلدانهم وتوجهاتهم، وضد الغلاء الفاحش، والتضخم الكبير غير المسبوق، وارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكلٍ كبير، ونقص إمدادات الطاقة من نفط وغاز وغيرها.
والأسوأ من كل ذلك هو أن ارتفاع نسبة التضخم النقدي لدى حليفهم الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت مادة رئيسية في حملة الجمهوريين والديمقراطيين في الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي، انعكس مباشرة وبشكلٍ فوري على القارة الأوروبية، حيث عملت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، في إطار مشروع لخفض التضخم النقدي، على جذب الشركات والمستثمرين الأوروبيين، بتقديم تخفيضات ضريبية ضخمة جداً وصلت إلى حد تخفيض يصل إلى نحو سبعة آلاف وخمسمائة دولار أمريكي لشراء سيارة كهربائية من مصانع في الولايات المتحدة الأمريكية، ناهيك عن المساعدات الهائلة التي تمنحها الولايات المتحدة الأمريكية للشركات الأوروبية على أراضيها.
وقد أدى ذلك إلى انفجار الخلافات بين الحلفاء بشكلٍ كبير، حيث استشعر الأوروبيون الخطر الداهم جراء تلك السياسات، وهدّد قادة الاتحاد الأوروبي باللجوء إلى منظمة التجارة العالمية، للعمل على وقف إمكانية اندلاع حرب تجارية كبيرة، إذا لم تؤخذ في الاعتبار مصالح الاقتصاد الأوروبي والشركات الأوروبية، ويتم إيجاد حلول عادلة لمصالح الطرفين.
إنَّ الخلافات الحادة غير المعلنة بين الحلفاء الأوروبيين والأمريكيين حول تلبية المصالح والهواجس الأمنية لجمهورية روسيا لوقف الحرب الدائرة في أوكرانيا، وإعادة صياغة الأمن الأوروبي من جديد على أسس وقواعد جديدة، بالتزامن مع محاولات فرض الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد الأوروبي، دفعت هذه التناقضات وتلك الخلافات الحادة إلى العلن، وباتت إمكانية تفكك التحالف الغربي برمته واردة أكثر من أي وقت مضى نتيجة تلك السياسات العنجهية .