تدمير الآثار…. هدف مشترك لـ”داعش وطالبان” ونظام كييف
البعث الأسبوعية – سياسة – سمر سامي السمارة:
في الآونة الأخيرة، أصبح شائعاً قراءة الكثير من تقارير وسائل الإعلام المختلفة حول تدمير العديد من المواقع والمعالم الثقافية والتاريخية في أوكرانيا، فعلى سبيل المثال، أفادت تقارير وسائل الإعلام المحلية في 2 تشرين الثاني الجاري بوقوع سلسلة انفجارات في مدينة نيكولاييف الأوكرانية. ومع ذلك، لم تكن هذه الإنفجارات ناجمة عن العملية العسكرية الروسية الخاصة، إذ سرعان ما اتضح لأهالي المدينة أن السلطات الأوكرانية هي نفسها التي قصفت المسلة التذكارية “الوطن الأم”، الموجودة في موقع النصب التذكاري لضحايا الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية، والتي نُقش عليها “المجد والخلود للأبطال”، حيث يوجد نقش لأسماء أكثر من خمسين جندياً مدفونين هنالك على ألواح سوداء.
من الواضح، أن المصير نفسه الذي حل بالعديد من النصب التذكارية للمقاتلين ضد الفاشية في أوكرانيا، طال نصب تذكارية أخرى لكبار القادة العسكريين في الإمبراطورية الروسية، ممن دافعوا عن الشعب الأوكراني والأراضي ضد الغزاة الأجانب. هذا ويمكن الإشارة إلى أنه، من بين هذه المعالم التي تم هدمها في كانون الثاني من هذا العام في مدينة برودي في منطقة لفيفسكا في أوكرانيا، تمثال نصفي للقائد العسكري الروسي ميخائيل إيلاريونوفيتش كوتوزوف (1745-1813) الذي اشتهر بالانتصار الحاسم على جيش نابليون الكبير.
وقبلها في عام 2015، تم تدمير نصب تذكاري لكونستانتين كونستانتينوفيتش (1858-1915)، الدوق الأكبر لسلالة رومانوف، الذي أنشأ فيلق “كاديت”، وهو يضم الآن الأكاديمية العسكرية الأوكرانية في أوديسا. فضلاً عن، تفكيك ونقل النصب التذكاري للقائد العسكري اللامع في كييف في عام 2018، وهو القائد الذي لم يخسر معركة واحدة في حياته، الجنرال ألكسندر فاسيليفيتش سوفوروف (1730-1800).
في الحقيقة، هناك المئات من هذه الأمثلة، لذا يرى مراقبون، أنه يتحتم على نظام كييف الحالي أن يتذكر أنه بفضل سوفوروف وكوتوزوف، اللذان ظفرا بمساحة كبيرة من الأراضي من الأتراك بمشاركة القوزاق الزابوروجيان الأوكرانيين، أصبحت مدن مثل إسماعيل، أوديسا، أوتشاكوف، نيكولاييف، خيرسون، زابوروجيا وغيرها الكثير داخل حدود أوكرانيا الحالية، بدون الحاجة إلى ذكر الأهمية الإقليمية لإسهام ملايين الجنود السوفييت الذين ضحوا بحياتهم على الأراضي الأوكرانية خلال الحرب العالمية الثانية في الحرب ضد الفاشية. لذلك، ينبغي ألا يدمر الأوكرانيون الآثار، بل الإعتزاز بها، ووضع الزهور على قواعد هذه النصب.
في ظل هذه الخلفية، لا بد أن يتبادر إلى أذهاننا أحداث العقدين الماضيين في أفغانستان والشرق الأوسط، حيث كان التدمير العلني وعمليات السلب والنهب للآثار التاريخية هو ما أظهر وحشية “طالبان” الأفغانية في مطلع القرن الحادي والعشرين. ففي 26 شباط 2001، أصدر زعيم طالبان الملا محمد عمر إعلاناً ساري المفعول يأمر بتدمير المجمع المعماري الشهير بالقرب من مدينة باميان التي تبعد 200 كم شمال غرب كابول، وهو المكان الذي بُنيت فيه الأديرة البوذية التي أصبحت مركزاً لإنتشار البوذية في جميع أنحاء وسط أفغانستان في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد. وهنا لا بد لنا من التذكير بأن باميان هو أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو، حيث تم تدمير تمثالين عملاقين لبوذا يبلغ ارتفاعهما 55 و 37 متراً منحوتاً في الصخر بالكامل على يد طالبان. وبحسب خبراء، كانت رغبة طالبان والقوى التي تقف وراءها إعادة تشكيل تاريخ أفغانستان وتقويض هويتها، هدفاً رئيسياً لتدمير الأصول الثقافية التاريخية لأفغانستان. في ذلك الوقت، في عام 2001 بدا تدمير تماثيل بوذا وكأنها عار يجب التخلص منها.
لاحقاً، جعلت “داعش” تدمير المعالم الأثرية و الثقافية من أولوياتها، ما جعل محاربة الحضارة هدفها أيضاً. كان هذا العمل الهمجي مقدمة لـ “حرب واسعة النطاق على التاريخ”، والتي انضمت إليها أوكرانيا الآن من خلال انخراطها الفعلي في إزالة النصب التذكارية والحضارية.
منذ بداية هذا القرن دمر المتشددون عشرات الآثار القديمة في الشرق الأوسط، مهد الحضارات وأصلها والذي شهد أقدم الحضارات في العالم خاصة في سورية والعراق. ففي عام 2010، تعرضت العديد من المعالم التاريخية الأثرية التي صمدت لآلاف السنين أمام الحروب والاضطرابات السياسية لخطر التدمير الكامل من قبل مسلحي “داعش”. ولعل من أكثر المعالم التي طالها التدمير كانت مدينة تدمير القديمة المشهورة عالمياً، بالإضافة إلى العديد من المدن الأخرى بآثارها التي تعود إلى زمن الغزو الروماني والخلافة العربية.
بالإضافة إلى آثار آشور القديمة وتدمر، تم تدمير الكنائس والأديرة والمساجد بشكل ممنهج. وفي مدينة الموصل القديمة بالعراق وحدها، دمر إرهابيو “داعش” 30 مبناً دينياً بين عامي 2014-2015، كما قاموا بتهريب الكنوز التاريخية من العراق لبيعها لـ “علماء الأثار الغربيين” ثم قاموا باستخدام الأموال لتمويل الأنشطة الإجرامية للمتطرفين.
فيما يتعلق بتدمير الآثار الثقافية والنصب التذكارية من قبل إرهابيي “داعش” في أفغانستان والشرق الأوسط، تجدر الإشارة إلى أن الديانات جميعها لا تمنع تصوير الكائنات الحية، وبالتالي لا يوجد حظر قانوني خاص على التصوير أو تجسيد الأشخاص. لذلك، عندما يلجأ من يدمرون الآثار إلى التذرع بمبادئ أي دين، فإن ذلك مجرد مزايدات سياسية لا علاقة لها بالدين.
في ظل هذه الموجة من أعمال التدمير للكنوز الثقافية، لا بد من الإشارة إلى أن هؤلاء المتطرفين ليسوا سوى أداة تديرهم قوى سياسية في الغرب، أي اللصوص الحقيقيون الذين يدمرون الإبداعات الثقافية والحضارية ويجددون مجموعاتهم بالقطع الأثرية الباقية والتي تم الاستيلاء عليها من تلك البلدان.
من الضرورة بمكان، أن نتذكر أن التدمير الكامل للتاريخ جاء في القرن العشرين مع ظهور عامل التطرف في الشرق الأوسط برعاية ودعم الاستخبارات الغربية. في البداية، كانت بريطانيا والولايات المتحدة تعتزمان مواجهة النفوذ السوفييتي في أفغانستان والشرق الأوسط بمساعدة الراديكاليين الخاضعين لسيطرتهما، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبح هؤلاء المتطرفون أنفسهم الأداة المثالية للغرب للإطاحة بالأنظمة العربية العلمانية التي تحاول الحفاظ على استقلالها عن واشنطن ولندن فيما يتعلق بسياستها الخارجية.
في هذا الصدد، لا بد لنا من التذكير بأن التدمير يعود بفائدة كبيرة للغاية على الولايات المتحدة وبريطانيا اللتان تهتمان بزعزعة الاستقرار المستمر للوضع في الشرق الأوسط وأفغانستان وروسيا، ليس فقط لإبقاء ألسنة الحروب “الأهلية” والصراعات مشتعلة هناك، ولكن أيضاً لتدمير البنية التحتية والتراث الثقافي لهذه البلدان، إذ لا تقل الآثار الثقافية والتاريخية أهمية عن الغاز والنفط ، فهي كنوز وطنية يمكن أن يؤدي تدميرها ليس فقط إلى كارثة ثقافية، ولكن سياسية واقتصادية أيضاً.