حدود الواقعية الألمانية
ريا خوري
بعيداً عن الصخب الإعلامي، أتت زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز إلى الصين مدفوعة بضرورات واحتياجات سياسية واقتصادية وأمنية إستراتيجية، فعلى الرغم من تطور مجريات الأحداث بشكلٍ متسارع في الأشهر الأخيرة، بعد التداعيات الكبيرة للحرب الروسية الأوكرانية واستحقاقاتها الدولية، لا تسمح ألمانيا، بوصفها القائدة الاقتصادية لأوروبا، بإيجاد عراقيل وحواجز، وإحداث المزيد من التعقيدات بين الصين وأوروبا.
قبل زيارته إلى الصين، وافق المستشار الألماني على صفقة لشركة “كوسكو” الصينية، وهي شركة عملاقة في مجال النقل البحري وبناء السفن الضخمة، يُسمح بموجبها لهذه الشركة بالاستحواذ على حصة في ميناء هامبورغ، ضمن اتفاقيات عدة مبرمة بين الطرفين.
الخطوة الألمانية التي بدأها المستشار شولتز تجاه الصين تندرج تحت بند الواقعية السياسية التي تؤمن بها ألمانيا، فمؤشرات الاقتصاد الألماني، من حيث زيادة تكاليف الإنتاج، والنقص الحاد في العديد من المواد، وتراجع مستويات التوظيف، وتراجع قيمة اليورو أمام الدولار الأمريكي، وتضخم الأسعار، وحدوث أزمات كبيرة في سلاسل التوريد العالمية، كل ذلك يضع موقع ألمانيا كدولة رائدة اقتصادياً على المحك، لكن الأخطر من الناحية الإستراتيجية هو التداعيات المحتملة على دول الاتحاد الأوروبي، فيما لو حدثت انتكاسات كبرى غير متوقعة في الاقتصاد الألماني، حيث تشكل ألمانيا مركز توازن قوي لمجمل دول الاتحاد الأوروبي.
لكن الواقعية الألمانية ومنطلقاتها السياسية في توجهها نحو إحداث توازنات في السياسات الدولية، ومحاولة إيجاد حلول وسط للأزمات التي بدأت تزداد وتتعقد بشكل متسارع، تعاني مشكلات عديدة وفي مجالات مختلفة ومتنوعة، فهي الآن تدفع ضريبة عدم تنويع سلّة الموردين للطاقة وتحديداً للغاز، واندفاعها السريع لتقليص الاعتماد على توليد الطاقة عبر المفاعلات النووية التي وافق “البوندستاغ” على استمرار تشغيل بعضها بعد أن كانت هناك أفكار لإيقافها وإغلاقها نهائياً.
في هذا السياق، وفي تلك المعادلات المتشابكة، تبرز أسئلة متوالية أهمها: هل تنجح الواقعية الألمانية في موازنة المناخ الاقتصادي والسياسي المضطرب والمتخبط على الصعيد الأوروبي والعالمي، وأقلّه خفض خسائرها جراء الصراعات الدائرة في العالم وتحديداً بين روسيا ودول الناتو؟
في حقيقة الأمر، لا تبدو موازين القوى الحالية دولياً تصب في مصلحة سعي ألمانيا لخفض التوترات، ومنع استطالاتها وتداعياتها واستحقاقاتها، كما أنها لا تمتلك أدوات الضغط القوية على حليفتها الأطلسية، الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً مع ازدياد حاجتها إلى القوة العسكرية الأمريكية في مجالي الدفاع والأمن، كما أنها لا تستطيع الانفكاك السريع عن سلاسل التوريد الصينية الهامة جداً والتي تشكل جزءاً من عصب الصناعة والإنتاج الاقتصادي الألماني، وهو ما يجعل من مساعيها، في أفضل الأحوال، تأخذ دور الوسيط، بين القوى المتصارعة في العالم، لتقليل إجمالي خسائرها الكلية داخلياً، والمساعدة ما أمكن على تماسك الاتحاد الأوروبي.