روسيا لم تنسحب تحت الضغط.. وأوراق القوة لم تُستنفد بعد
البعث الأسبوعية – سياسة – بشار محي الدين المحمد:
بعد الخطوة التي أعلنتها روسيا بإعادة تموضع قوّاتها ونقل العسكريين وكامل العتاد من غرب نهر دنيبرو إلى شرقه، وذلك بعد إجلاء المدنيين منها حفاظاً على سلامتهم من أي حركة انتقام ضدهم من نظام كييف، تثار تساؤلات عديدة تشابه ما سبقها من تساؤلاتٍ حول الكرّ والفرّ الجاري خلال العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، لكنها هذه المرة مختلفة تماماً، فهي لم تشهد نشوة النصر التي كان يتظاهر بها سابقاً رئيس نظام كييف فلاديمير زيلينسكي، كما أنها ترافقت مع قلق أمريكي زائد تجاه هذه الخطوة وأكثر حدّة مما سبق.
وكما يعلم الجميع، روسيا لم تستخدم كل قوّتها أو تلعب جميع أوراقها رغم استماتة أوكرانيا ومن خلفها أمريكا والغرب، حيث اتخذوا شكل المعركة لا العملية الخاصة عبر استنزافهم الأموال الطائلة وترسانات السلاح، في حين أنّ روسيا تُظهر كامل حرصها على سلامة مدنيي أوكرانيا، وتتعامل معهم بكامل الإنسانية على عكس ما كانت تفعله أمريكا ضدّ المدنيين خلال غزوها غير الشرعي للعراق وغيره من بقع العالم، ولم تستهدف روسيا حتى الآن السكك الحديدية وأغلبيتها تعمل حتى اللحظة، على الرغم من استخدام الغرب لها لإمداد قوات نظام كييف وإطالة أمد الحرب، ولو فعلت روسيا ذلك لشلت الإمداد شللاً تاماً، لكنها ما زالت تدرس خطواتها وتسير بالتدريج حتى تترك حيّزاً للتفاوض.
إنّ استخدام كامل القوة من روسيا لا يعني بالضرورة استخدام السلاح النووي أو حتى النووي التكتيكي لقلب موازين المعركة لمصلحتها، بل يشمل خريطة أهداف كبيرة لدى موسكو بدأت بقصفها بُعيد استهداف جسر القرم، وبإمكانها تكثيفها بشكل يفوق التصوّر ويشلّ جميع البنى التحتية، ما يستحيل معه مواصلة القتال من قوات كييف، مع قلب حاضنتها الشعبية الآخذة بالانخفاض أساساً مع اقتراب الحرب من أحيائهم السكنية.
يرى بعض المحللين أنّ ما حدث في مقاطعة خيرسون يُعدّ تحرّكاً تكتيكياً ومناورة بالقوات بهدف الحفاظ على سلامة الجنود الروس والعتاد، مع استمرار القصف المركز للأهداف الاستراتيجية من روسيا على جبهة كييف، بهدف تحقيق إخضاع نظامها.
وتلتقي وجهة النظر هذه مع ما ورد في تصريحات قائد العملية الروسية الخاصة الجنرال سيرغي سوروفيكين، حيث أكد أنه من الصعب إبقاء القوات الروسية غربي نهر دنيبرو، وذلك بسبب ارتفاع وانكشاف هذه المنطقة وصعوبة تضاريسها.
وإذا عدنا إلى المساحات فإن الجزء المُخلى تبلغ مساحته 9 آلاف كم2، بينما تحتفظ القوات الروسية حتى الآن بمساحة 18ألف كم2 من خيرسون أي ما نسبته 65%، كما أنّ روسيا صرّحت بأنّ خيرسون ما زالت أرضاً روسية بالكامل.
إنّ عملية إعادة التموضع الجارية تعني تغيير الأولويات وتمثّل حدوث انسحاب عملاني وفق بعض الخبراء العسكريين، وله مبرّرات قادمة في أرض المعركة كالاستفادة من عرض النهر البالغ من 400- 2500 متر لحماية القوات، والاقتصاد في القوى البشرية والذخيرة والعتاد، وخاصةً أنه جاء دون ضغط أو ضربات أوكرانية على القوات الروسية، كما يهدف أيضاً إلى تعزيز الربط مع القرم وإتمام تجميع وحشد قوات الاحتياط وتيسير الإمداد.
في حين يرى بعض الخبراء فيما جرى على جبهة خيرسون أنه سيشكّل فخاً عسكرياً أو محرقة لقوات كييف والناتو في حال دخولهم تلك المنطقة الخالية، بدليل عدم استعجال قوات نظام كييف بدخولها حتى اللحظة تحت حجج واهية كالحرص على عدم وجود ألغام أو تفخيخ.
ولا ننسى أن روسيا تؤمن حتى اللحظة بحل الأزمة عبر المفاوضات حفاظاً على جنودها بالدرجة الأولى، وعلى سلامة المدينة من الدمار، على العكس من نظام كييف، إذ بلغت خسائره نحو 8 أضعاف خسائر الجانب الروسي، ويدمّر الأحياء السكنية دون خطط قتالية دقيقة، مع استعداده لفعل أي شيء إرضاءً لأمريكا والغرب، بشكل متزامنٍ مع تلقيه مليارات الدولارات من المساعدات والأسلحة النوعية التي وصلت إلى حدّ الاستنزاف لأوروبا وأمريكا.
من جهةٍ أخرى، نلحظ تكثيف التصريحات الأمريكية المحرّضة لنظام كييف على سلوك مسار التفاوض في السر والعلن، ومنذ أسبوعين بدأ ذلك بعد أن طالب 30 عضواً في الكونغرس الرئيس الأمريكي جو بايدن بتغيير مقاربته للحرب الأوكرانية والبحث عن تسوية سلمية لها، بعد أن استنزفت الأموال الأمريكية، إضافةً لإلى مخاوفهم من اندلاع صراع نووي.
كذلك أكد خبراء أن شبح التحالف الروسي الصيني يثير مخاوف واشنطن من الحقبة السوفييتية، ويطارد السياسيين الأمريكيين الذين لا يغمض لهم جفن خوفاً من وقوع صدام متزامن مع روسيا في أوكرانيا، والصين في تايوان، وأنّ هذا الكابوس قد يصبح حقيقة في ليلة وضحاها، في وقت تبدو فيه أمريكا في أضعف حالاتها وقمّة عجزها عن فتح جبهتين للنزاع مع القوى الكبرى في العالم رغم وقوف الغرب إلى جانبها، وذكرت صحيفة “فورين بوليسي” أنّ إدارة بايدن تظهر رغبة في التواصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن بعض قضايا السياسة الخارجية، على الرغم من أنها تواصل فرض العقوبات على روسيا، كما قالت السفيرة الأمريكية لدى الناتو، جوليان سميث: إنّ الولايات المتحدة تأمل في بدء مفاوضات بشأن أوكرانيا في المستقبل.
في حين أكد نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودينكو أنّ “بلاده ليس لديها شروط مسبّقة للتفاوض مع أوكرانيا، لكن يجب على كييف أن تظهر حسن النية”.
ولا يخفى دور هذه العملية الخاصة في تسريع الكشف والتمايز عن أقطاب العالم الجديد وزيادة التقارب الروسي الصيني وانضمام كل الدول الناقمة على الظلم الأمريكي إلى صفّهم.
أما رئيس نظام كييف فقد صرّح بأنه لن يتخلى عن المفاوضات مع الجانب الروسي، ما يشكّل تعديلاً في نهجه الذي سبق أن أعلن عنه لجهة رفضه التفاوض مع الرئيس بوتين.