فضائح بريطانيا السرية في اليمن
البعث الأسبوعية – سياسة -عناية ناصر:
لم تكن حرب المملكة المتحدة الحالية على اليمن هي المرة الأولى التي تقوم فيها بريطانيا بتدمير البلاد، حيث دفع الانقلاب الذي وقع في شمال اليمن قبل ستين عاماً المسؤولين في المملكة المتحدة إلى بدء حرب سرّية أدّت أيضاً إلى مقتل عشرات الآلاف كما هو الحال الآن، إذ تعتبر الحرب الوحشية التي تتعرض لها اليمن منذ عام 2015، بمثابة أسوأ كارثة إنسانية في العالم.
وعلى الرغم من الهدنة التي تم التوصل إليها منذ نيسان الماضي، إلا أنّه تمّ خرقها مرات عدّة، ومن المتوقع أن تنهار.
لذلك فقد حان الوقت الآن للتفكير بشكل جدّي بشأن من قد يتم توجيه الاتهام إليه بارتكاب جرائم حرب بما في ذلك في بريطانيا، والتسبب بمقتل حوالي تسعة آلاف مدني في أكثر من 25 ألف غارة جوية قامت بشنها قوات التحالف، وسهّل أغلبها سلاح الجو الملكي البريطاني.
يعيد التاريخ نفسه بشكل مأساوي، والثمن يدفعه اليمنيون مرة أخرى، فقبل ستين عاماً، في أيلول 1962، أطيح بملك وإمام اليمن الشمالي محمد البدر بانقلاب قاده العقيد عبد الله السلال، وهو قومي عربي داخل الجيش اليمني، الذي أعلن قيام الجمهورية العربية اليمنية، وأقام علاقات وثيقة مع الحكومة المصرية في عهد جمال عبد الناصر.
داهية غير جديرة بالثقة وخائنة
أظهرت الملفات التي تم رفع السرية عنها أن المسؤولين البريطانيين كانوا على علم بأنهم يدعمون الجانب الخطأ، حيث أشار كريستوفر غاندي، كبير المسؤولين البريطانيين في شمال اليمن، بعد فترة وجيزة من الانقلاب، أن حكم الإمام السابق لا يحظى بشعبية، وأن احتكاره للسلطة لاقى امتعاضاً كبيراً على عكس الحكومة الجمهورية الجديدة التي سرعان ما عينت أشخاصاً في مناصب من طبقات ومناطق كانت مهملة في السابق في توزيع السلطة.
وفي هذا الإطار، أشار غاندي أنه على عكس الاستبداد التعسفي للإمام، كان الجمهوريون أكثر انفتاحاً على الاتصال والحجج المنطقية، ولذلك أوصى بأن تعترف المملكة المتحدة بالحكومة اليمنية الجديدة، لكن تعرض غاندي للانتقاد من قبل المسؤولين السياسيين في لندن، والمسؤولين في عدن المجاورة، التي كانت مستعمرة بريطانية آنذاك.
التهديد بقدوة حسنة
كانت القضية الكبرى بالنسبة لحكومة “وايت هول” هي الاحتفاظ بالقاعدة العسكرية للمملكة المتحدة في مدينة عدن الساحلية، و كان هذا هو حجر الزاوية للسياسة العسكرية البريطانية في منطقة الخليج، حيث كانت المملكة المتحدة في ذلك الوقت القوة الرئيسية، وتسيطر بشكل مباشر على دول الخليج، ولها مصالح نفطية ضخمة في أماكن أخرى.
صرّح وزير الخارجية أليك دوغلاس هوم بعد فترة وجيزة من الانقلاب الجمهوري أن عدن لا يمكن أن تكون آمنة من “نظام جمهوري راسخ في اليمن”.
وخلص اجتماع وزاري بالمثل إلى أنه إذا تم إجبار بريطانيا على الخروج من عدن فسيكون ذلك بمثابة “ضربة مدمرة لهيبتنا وسلطتنا” في المنطقة. كما أن الاعتراف بالحكومة اليمنية الجديدة قد يؤدي إلى انهيار معنويات حكام المحمية الموالين لبريطانيا، مما يعرض الموقف البريطاني بأكمله في المنطقة للخطر.
حكومة ضعيفة في اليمن
من الصعب تجميع تسلسل زمني للعمل السري البريطاني في ظل الرقابة على الملفات البريطانية، لكن المهمة تمت بمساعدة تحليل الخبير في جهاز الاستخبارات البريطاني، ستيفن دوريل في كتابه الشامل عن جهاز الاستخبارات البريطاني، والذي أنتج بشكل أساسي من مصادر ومقابلات ثانوية، كما كان هناك كتابان بارزان آخران لـ كلايف جونز، ودوف هارت ديفيس.
في تشرين الأول 1963، زار ماكلين السعودية، والتي طلبت منه تقديم المساعدة للملكيين، وخاصة “الدعم الجوي، إذا كان ذلك ممكناً بشكل علني، و إذا لم يكن ذلك ممكناً، فسراً”. وبحلول أوائل تشرين الثاني من نفس العام، كانت الأسلحة والأموال السعودية تتدفق على الملكيين، وفي نفس الشهر أصدرت وزارة الخارجية ورقة سياسية تحدد الخيارات المفتوحة للحكومة، بما في ذلك المساعدات السرية. وفي 7 كانون الثاني 1963، دعت لجنة الخارجية والدفاع التابعة لمجلس الوزراء إلى عدم الاعتراف بالنظام الجديد في اليمن، وأنه إذا كانت بريطانيا ستقدم المساعدة للملكيين ، فيجب أن تكون بعيدة وليس مباشرة. في الشهر التالي، تعرضت مواقع في اتحاد جنوب الجزيرة العربية لهجوم من قبل رجال القبائل اليمنيين. بعد ذلك عيّن ماكميلان جوليان العامري وزيراً له في عدن، وأعطاه صلاحية تنظيم الدعم البريطاني سراً للملكيين .
امدادات الأسلحة
زار ماكلين اليمن للمرة الثالثة في 1 آذار 1963، وبعد ذلك بوقت قصير زار وفد ملكي “إسرائيل”، وبعد ذلك قامت طائرات إسرائيلية لا تحمل أي علامات برحلات جوية من جيبوتي لإسقاط الأسلحة على المناطق الملكية. وبحلول أوائل آذار، أكدت الملفات أن بريطانيا متورطة بالفعل في إمداد الملكيين. ووفقاً لدوريل، تم إخراج العديد من الأسلحة الخفيفة والتي تبلغ قيمتها ملايين من الجنيهات الاسترلينية، بما في ذلك 50000 بندقية، سراً من قاعدة سلاح الجو الملكي البريطاني في ويلتشير، و لإخفاء مصدر الأسلحة الأصلي، تم إنزالها في الأردن لمواصلة النقل.
وفي اجتماع عقد في أواخر نيسان عام 1963 شارك فيه رئيس” جهاز الاستخبارات البريطاني” ديك وايت، وماكلين، و مؤسس” القوات الجوية الخاصة “ديفيد ستيرلنغ، وضابط “القوات الجوية الخاصة” السابق بريان فرانكس، و دوغلاس هوم، وعامري، حيث تم إخبار ستيرلنغ و فرانكس بأنه لا يمكن أن يكون هناك تدخل رسمي” للقوات الجوية الخاصة”، وطُلب منهم إيجاد شخص يمكنه تنظيم عملية يقوم بها مرتزقة.
كانت خطة اليمن المقترحة مثار نقاش حاد في” وايت هول “، ولكن تم إقناع رئيس الوزراءفي النهاية بدعمها، وأصدر تعليماته إلى جهاز الاستخبارات البريطاني لمساعدة الملكيين. تم تشكيل فرقة عمل “جهاز الاستخبارات البريطاني” التي نسقت توريد الأسلحة والأفراد. وفي تشرين الأول، استقال ماكميلان ليحل محله دوغلاس هوم كرئيس للوزراء، الأمر الذي أوقف مؤقتاً الخطط منذ أن عارض وزير الخارجية الجديد، راب بتلر، دعم الملكيين سراً.
وبحسب مذكرة وزارة الدفاع، فإن أعمال التخريب في الأراضي اليمنية كانت تنفذ تحت سيطرة ضباط بريطانيين ، حيث يستطيع هؤلاء الضباط توزيع السلاح والمال على دفعات حسب الوضع المحلي وبما يتناسب مع النجاحات المحققة. كانت “عملية الحقد” هي الكلمة السرية التي أعطيت لـ “العمليات السرية الحالية لاستغلال القبائل المنشقة على مسافة تصل إلى 20 كيلو متراً داخل اليمن.
وذهبت وثيقة غاية السرية في الملفات الحكومية إلى أبعد من ذلك في النظر في الخيارات المفتوحة لبريطانيا، وكان عنوانها : “اليمن.. نطاق الإجراءات الممكنة المفتوحة أمامنا”. أثناء مناقشة هذه الخيارات على انفراد، كذب رئيس الوزراء دوغلاس هوم على البرلمان، في 14 أيار 1964 قائلاً: “سياستنا تجاه اليمن هي سياسة عدم التدخل في شؤون ذلك البلد، ولذلك ليس من سياستنا تزويد الملكيين في اليمن بالسلاح”.
لكن في الحقيقة، تم توظيف حوالي 48 من العسكريين السابقين كمرتزقة في ذلك العام، بما في ذلك عشرات من عناصر “الخدمة الجوية السابقة” السابقين. كما قدم ضباط “جهاز الاستخبارات البريطاني” دعماً استخباراتياً ولوجستياً، كما نسق عملاء جهاز الاستخبارات البريطاني عبور رجال القبائل عبر الحدود.
حتى انتخاب حكومة حزب العمال في تشرين الأول عام 1964 برئاسة هارولد ويلسون، فهي الأخرى لم تؤثر على مسار العملية السرية، لكن بعد حرب 1967 اضطرت بريطانيا إلى الانسحاب من عدن في شهر تشرين الثاني، وفي آذار 1969 تم توقيع معاهدة إنهاء الأعمال العدائية مع الدولة التي ولدت من جديد باسم اليمن الشمالي.