هل تستطيع أوروبا تدارك الكارثة.. ساسة غربيون يدعون إلى استعادة الحوار مع روسيا
البعث الأسبوعية – سياسة – طلال ياسر الزعبي:
“عودٌ على بدء”.. هذا لسان حال الساسة الأوروبيين حالياً بعد مرور ثمانية أشهر على الحرب الدائرة في أوكرانيا، إذ إنهم لا يستطيعون الاستمرار في المكابرة ورمي تبعات إخفاقاتهم على روسيا، ولا بدّ من العودة إلى أصل المشكلة، لأنهم حتى لو حاولوا تغطية تصريحاتهم بلبوس آخر، لا يستطيعون مطلقاً أن ينكروا أن الحرب التي خاضتها روسيا في أوكرانيا حرب مقدّسة، فقد جاءت أصلاً لمنع الناتو من التمدّد بآلته العسكرية إلى حدود روسيا عبر أوكرانيا التي كان ينبغي عليها أن تحافظ على وضعية الحياد في العلاقة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا، وأن تقدّم عن حسن نيّة ضماناتٍ للجانب الروسي بأنها لن تتقدّم بطلب انضمام إلى حلف الناتو لاستفزاز روسيا، ولكن ما حدث هو العكس تماماً، حيث أغرقت كييف في استفزاز روسيا إلى أبعد الحدود، وأصرّت على شنّ حرب إبادة على الناطقين باللغة الروسية في إقليم دونباس، بل زادت على ذلك بإعلانها أنها لا تحترم أبداً عادات سكان الإقليم وتقاليدهم، وأنها ترغب فعلياً بالانضمام إلى الأنموذج الغربي، وتحديداً حلف الناتو، الأمر الذي وضع موسكو أمام تحدٍّ وجودي، حيث صارت العاصمة الروسية وفقاً لهذا التصوّر في مرمى صواريخ الناتو، وهو الأمر الذي توافق الناتو سابقاً مع روسيا على عدم بلوغه.
ومع تنصّل الناتو من تعهّداته بعدم التوسّع شرقاً وإصراره لاحقاً على عدم تقديم ضماناتٍ بهذا الشأن يكون قد وضع روسيا أمام أمرين لا ثالث لهما، فإما السكوت وبالتالي قبول تهديد الناتو المباشر للأراضي الروسية بكل ما يحمله ذلك من تبعات أمنية، وإما القيام بالعملية الخاصة وهو أقل ضرراً من الخيار الأول، وهذا ما حدث بالفعل.
وأمام هذه المخالفة للتوقعات بالنسبة إلى الغرب، اضطرّت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتخاذ قرار بفرض العقوبات على روسيا ظنّاً منها أن ذلك يمكن أن يجبر روسيا على الجثو على ركبتيها ورفع الراية البيضاء في الحرب، ولكن السحر انقلب على الساحر حيث ارتدّت العقوبات الغربية تضخّماً غير مسبوق في أسعار السلع في الغرب، وأزمة كبيرة في موارد الطاقة، أدّت تلقائياً إلى أزمة في وقود التدفئة، الأمر الذي رفع منسوب الغضب الشعبي داخل هذه الدول وبات يهدّد بانهيار الحكومات الغربية، فضلاً عن كونه يمكن أن يكون وسيلة لتغيير أنظمة الحكم فيها، وبالتالي العودة بأنظمة موالية لروسيا في الدول الغربية، وهو ما لا تستطيع واشنطن تصوّره.
من هنا، وبعد بلوغ الأمر هذا الحدّ من الخطورة، بدأ الساسة الغربيون المتعقّلون إلى حدّ ما برفع أصواتهم في مواجهة انحياز القادة الأوروبيين الأعمى إلى واشنطن، حتى لو كان ذلك على حساب اقتصاداتهم ومصالح دولهم العليا، حيث أعلنت النائبة السابقة في البرلمان الأوروبي من أيرلندا، كلير ديلي، أن واشنطن شنّت بسبب أوكرانيا واحدة من أكثر الحروب الدعائية في عصرنا ضد روسيا.
وقالت في حديث لصحيفة “Junge Welt”: “يتهم البعض روسيا بالدعاية، لكن في حقيقة الأمر فإن كل شيء هنا تفرضه مراكز التحليل ووسائل الإعلام التي تموّلها الولايات المتحدة”.
وعبّرت البرلمانية الأوروبية السابقة عن اعتقادها أن “التزوير” في جانب الناتو برئاسة الولايات المتحدة هو الذي دفع موسكو إلى “الردّ المباشر” في شكل العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا. وأوضحت: “هندست الولايات المتحدة هذا السيناريو لإضعاف روسيا.. وإذا لم ندرك أن الوضع في أوكرانيا هو حرب بالوكالة من جانب الغرب فلن نتمكّن أبداً من إيجاد طريقة لوقف سفك الدماء”.
وإضافة إلى ذلك، أشارت إلى أن الولايات المتحدة تؤخّر بشكل متعمّد بداية التسوية السلمية للنزاع، وذلك من أجل الاستفادة القصوى من هذا النزاع. ودققت: “اليوم يسمّون كل من يدعو لإحلال السلام بين موسكو وكييف بأنهم أنصار الحرب الروسية. لكن هذا ما يطرحه الأشخاص الذين يحاولون استخدام الأوكرانيين كوقود للمدافع في “الحرب المقدّسة ضد روسيا”، في حين تكتسب الشركات العسكرية الأمريكية والأوروبية الربح الهائل عن طريق تسليم الكميات الهائلة من الأسلحة للقوات الأوكرانية”.
وحتى العقوبات الغربية المفروضة على موسكو بدأت تفعل فعلها داخل المجتمعات الأوروبية ذاتها، حيث أصابت شرائح الناس ذوي الدخل المحدود الذين يمكن أن يكونوا وقوداً لاضطرابات واحتجاجات شعبية واسعة تندلع في هذه الدول وتؤدّي إلى تغييرات ربما لا تكون في مصلحة المهندس الذي تحدّثت عنه الخبيرة التي أشارت في الوقت ذاته إلى أن سياسة إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا وفرض العقوبات الشديدة على روسيا لا تعمل ولا تؤدّي إلا إلى تدهور الوضع: “أصبحت القيود الاقتصادية المفروضة على روسيا دعوة للحرب وليس للسلام”.
وجاءت دعوة النائبة اليسارية في البرلمان الألماني، سارة واغنكنخت، واشنطن إلى التخلي عن سياسة “فرق تسد” في استراتيجيتها لمواجهة روسيا والصين، لتؤكّد تزايد الوعي في أوروبا إلى المخاطر التي تحملها سياسة الاستعداء الشديد التي تنتهجها أوروبا إزاء روسيا.
واتهمت النائبة الألمانية البيت الأبيض بتأجيج الصراع في أوكرانيا بهدف استعادة أمجاده، وبسط نفوذه على العالم الذي لا يروق لواشنطن أن يصبح متعدّد الأقطاب، وهي بذلك وضعت إصبعها على الجرح الذي يخشى أغلب القادة الأوروبيين بحكم خوفهم من البيت الأبيض نكأه، فالتبعية للعم سام أهم لديهم من مصالح شعوبهم واقتصاداتهم المنهارة على خلفية التعنّت في فرض عقوبات على روسيا هي في حقيقتها سلاح ذو حدّين، بل ربما تكون بمنزلة إطلاق الرصاص على أقدام الشعوب الأوروبية التي أصبحت الآن على مشارف شتاء شديد البرودة في ظل أزمة وقود خانقة تعيشها منطقة اليورو.
وفي نظرها “حماقة ساسة البيت الأبيض تكمن في محاولاتهم كبح جماح موسكو وبكين، عوضاً عن السعي لبناء أسس الشراكة معهما”، ومن هنا طالبت الغرب بـ”التخلي عن سياسة فرق تسد”.
وفي وقت سابق، شدّدت فاغنكنخت على خطورة انعدام خطة لإحلال السلام في أوكرانيا، واعتبرت ذلك وصمة عار في جبين الغرب، مشيرة إلى أن الأولوية تقتضي إنهاء الصراع أولاً، ثم الحديث عن ضماناتٍ أمنية.
في موازاة الدعوات السابقة إلى التعقّل، يبدو أن المسؤولين البريطانيين مصرّون على الكذب ومحاولة تحميل تبعات العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على روسيا من جانب واحد لموسكو، حيث يجد هؤلاء المسؤولون في ذلك فرصتهم الوحيدة للظهور، وفي الوقت ذاته التنصّل من مسؤولياتهم إزاء الشعوب التي باتت تدرك أن العداء المستحكم لمسؤوليهم للدولة الروسية هو الذي يقف خلف جميع مشكلاتهم الاقتصادية، وبالتالي لن يسعف وزير المالية البريطاني جيريمي هانت، اتهامه لروسيا بالتسبّب بحالة الركود الاقتصادي في بريطانيا، عبر اختلاق وضع عالمي جديد بالعملية العسكرية في أوكرانيا، لأن الغرب وعلى رأسه بلاده والولايات المتحدة الأمريكية، هو الذي أصرّ على التعاطي مع الأزمة بهذه الطريقة الغبية، إذ ليس من المعقول أن تقود روسيا من الخارج الاقتصاد البريطاني الذي ينبغي أصلاً أن تكون الحكومات البريطانية المتعاقبة هي المسؤولة عن تحديد خط سيره والبحث عن موارد جديدة له، وليس استنزاف هذه الموارد عبر تقديم الدعم للنظام الأوكراني في حربه بالوكالة على روسيا، فقط لأن الغرب الرأسمالي يرغب في هزيمة هذا البلد.
ووفقاً له، فإن بريطانيا “فقدت الاستقرار بشكل رئيسي بسبب تصرّفات روسيا في أوكرانيا، ويمكننا أن نطلق على هذا الركود “صُنع في روسيا”، نحن بحاجة إلى استعادة الاستقرار من أجل اتخاذ الخطوة الأولى نحو النمو”.
وبدلاً من محاولة تدارك المصير السيّئ الذي يذهب إليه الاقتصاد البريطاني عبر سياسات حكومته الكارثية، يعود إلى تحميل روسيا مسؤولية الأزمة، حيث وجد أغلب الساسة الأوروبيين الفاشلين في روسيا شمّاعة يعلّقون عليها إخفاقاتهم في تنمية اقتصاداتهم المتهالكة.
وبالنتيجة، لا يستطيع هؤلاء أن ينكروا أن الانجرار الأعمى وراء واشنطن في حلم هزيمة روسيا، كان له الدور الأكبر في وصول الحالة الاقتصادية في بلادهم إلى هذا الواقع المرير، وذلك لأنهم ببساطة راحوا يشخّصون المشكلات الاقتصادية على أنها فعل روسي بامتياز، وكأن روسيا هي من ترسم لهم سياساتهم الاقتصادية، فإذا كانوا لا يستطيعون قراءة مصالحهم السياسية بشكل جيد، فلا ينبغي إذن تحميل روسيا مسؤولية عجزهم عن القراءة.