الطريق إلى السلام أم الطريق إلى الحرب؟
البعث الأسبوعية – سياسة -هيفاء علي:
مع اقتراب عام 2022 من نهايته، بلغت الحرب الأوكرانية ذروتها، وهي في تصعيد متواصل وسريع وشديد الخطورة. وعلى الرغم من أن هذا التصعيد أكثر فتكاً مما كان متوقعاً ومدمراً للغاية، إلا أنه من الصعب الحصول على فكرة دقيقة عن النتائج في هذه المرحلة، نظراً للتصعيد الجامح والحملة الشاملة للتضليل والدعاية في جميع وسائل الإعلام مثلما هي على المستوى الرسمي، مع إسكات جميع الأصوات المعارضة. بهذه العبارات بدأ الدبلوماسي الفرنسي السابق، ميشيل ريمبو تحليله الذي حمل عنوان
” الطريق الى السلام أم الطريق إلى الحرب”، ونشر على موقع مجلة “أفريقيا-آسيا”.
انتصار دعاة الحرب
يقول ريمبو إن العالم بات يسمع الكثير من الدعوات العسكرية باسم احترام القيم والتضامن، والثمن الذي تدفعه الشعوب مقابل الحرية، بينما اختفت كلمة “السلام” تماماً كما لو كانت “الدعوة للسلام” محرمة وكأنها خيانة. وتساءل أين هؤلاء “المحبون للسلام” الذين ظل السياسيون الغربيون يتحدثون عنهم في رحلاتهم الانتخابية أو البرلمانية؟.
بلا شك سيكون الصراع أقل تعقيداً لولا تدخل القوى الخارجية بدءاً من أمريكا البعيدة، وكذلك “الجيران” الأوروبيون، الذين قاموا بالدفع نحو التصعيد ، وذلك من خلال الكلمات والخطب والأفعال. وتساءل ألا يدفنون أتباعهم في كييف تحت مليارات الدولارات وفيضانات الأسلحة، مما يشجعهم على مواصلة الحرب بأي ثمن، ناهيك عن الضغوط المستمرة التي تهدف إلى منعهم من الإذعان لأي إغراء للتفاوض؟.
بعد ذلك، يشير ريمبو إلى أن الطريقة الوحيدة لإنهاء الصراع بين طرفين هو تحقيق سلام تفاوضي بينهما، ولكن الجهات الخارجية تفعل كل ما بوسعها لمنع التوصل الى التفاوض، بل لا تكف عن إطلاق الدعوة إلى الحرب مرات عديدة من قبل الدول الغربية المعادية لروسيا. فأوكرانيا وحلفاؤها في الناتو (بقيادة الولايات المتحدة) يقدمون هذا التصعيد على أنه رد حيوي على ما أسموه “العدوان الروسي” و”نضال في الدفاع عن الحرية والديمقراطية”. وبالنسبة للكرملين، إنها “حرب وجودية” ضد الناتو، والسبيل الوحيد لمواجهة خطة تفكيك روسيا التي رسمت خطوطها واشنطن في عام 1991، تتويجاً لإنجاز خطة المحافظين الجدد التي أدرجت بالفعل في قائمتها تفكيك يوغوسلافيا، ودول أخرى فيما بعد من خلال إطلاق ودعم “الثورات الملونة”، أو اشعال فتيل الاضطرابات تحت ستار ما يسمى ” الربيع العربي” في ليبيا وسورية وتونس ومصر، ناشرةً الفوضى والخراب والجنون في جزء كبير من العالم.
الأمم المتحدة في خطر
يتابع الدبلوماسي الفرنسي أنه وفق معاهدة “ويستفاليا” التي تم إبرامها عام 1648، فإن الطريقة الوحيدة لإنهاء الصراع بين طرفين هي التوصل إلى سلام تفاوضي بينهما، حيث تقتضي الفطرة السليمة أنه لا يمكن فرض الحل من خلال حسن نية أحدهم، أو الهزيمة العسكرية، أو استسلام أحد الطرفين، مما يفسح المجال لإمكانية الاستثناء، والجميع يعلم هشاشة السلام في مثل هذه الحالة التي تثير الرغبة في الانتقام. لكن ليس هذا هو الحال بين روسيا وأوكرانيا، طرفي الصراع. فعندما لا يرغب الأعداء أو لا يستطيعون التحدث مع بعضهم البعض، يمكن للوسيط أن يتدخل، لكن من الواضح أن هذا التقليد الويستفالي قد عاش ضمن ما تكون مفاهيم الحرب والسلام غير واضحة، أي حروب مختلطة، وغير مرئية، واقتصادية أو مالية، وعقوبات أحادية الجانب، وعمليات حصار، وعمليات حظر، وإجراءات قسرية أخرى، وقانون قيصر، في تجاوز الحدود الإقليمية للمعايير أو القوانين.
إن من يتخذ هذه الاجراءات أو المواقف هم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن، وعلى رأسهم أمريكا، وهم غير قانونيين من وجهة نظر القانون الدولي، وينتهكون حتى “قوانين الحرب”، دون أن تجرؤ الأمم المتحدة على قول كلمة. ومع ذلك، فإنه من المفترض أن يكون مجلس الأمن، وفقاً لميثاق “سان فرانسيسكو”، هو الذي يلعب الدور الرئيسي في جميع مسائل السلام والأمن وحل النزاعات، والذي يجب أن يديره وفقاً للمعايير المقبولة من قبل كافة الاطراف.
يستبعد القانون الدولي اللجوء إلى “القواعد” التعسفية التي اختلقها بعض الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ويعتبر القوانين التي تتجاوز الحدود الإقليمية، التي تحبها الولايات المتحدة غير قانونية تماماً. لقد أزالت هذه الابتكارات الحدود بين السلام، و حالة الحرب، وإعلان الحرب، ووقف إطلاق النار، ومعاهدة السلام، والأفعال التي ميزت الحياة “الويستفالية” على أساس مبادئ بسيطة ومستقرة.
في هذا السياق، استمر الانتداب البريطاني على فلسطين من 1920 إلى 1948، كما كان بداية تطبيق “وعد بلفور” الذي سلم فلسطين للميليشيات الصهيونية، فيما بدأ الصراع العربي الإسرائيلي عام 1920. لقد كانت حرباً جديدة استمرت أكثر من مائة عام نتج عنها طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، ولم يكن هناك نهاية في الأفق حتى يومنا هذا. تفترض فعالية القانون الدولي وجود إطار قانوني واحد، حيث يمكن لجميع البلدان التفاعل وفقاً لمعايير مشتركة. كان هذا هو الحال بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك خلال الحرب الباردة، وأثناء أزماتها الحادة. ومع ذلك، على مدار الأعوام الثلاثين الماضية، كان هناك تطور خطير، وأكثر جوانبه تدميراً هو الانتهاك الصارخ للقانون الدولي، وتدهور الأخلاق والعادات والأعراف الدبلوماسية، وانتهاك القانون من قبل الأعضاء الدائمين، ما ولد عجز منظومة الأمم المتحدة، وجعل إطار عمل الأمم المتحدة في دائرة خطر كبير.
وهكذا تشهد الأمم المتحدة مصير عصبة الأمم، التي نشأت في أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكنها ضحية لعجزها وافتقارها إلى التمثيل. ونتيجة عرقلة مجلس الشيوخ، لم تلتزم الولايات المتحدة بقوانين عصبة الأمم المتحدة، ثمرة مبادرة رئيسهم، وفي نهاية الأمر تم التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة في 26 حزيران 1945 في أوبرا سان فرانسيسكو، بعد مناقشات محتدمة.
وبالتالي فإن ما يسمى بالعجز يرجع إلى اختفاء أي توافق في الآراء بشأن أسس العلاقات الدولية، وانحراف الدبلوماسية أو التخلي عنها، الأمر الذي يدفع إلى طرح السؤال التالي، هل يجب الالتزام بقانون الأمم المتحدة أو العودة إلى “القواعد والقوانين” المقترحة من الغرب؟. الأمر الذي يقود إلى السؤال الحاسم في هذه الحالة ألن يكون هناك مجتمعان دوليان أحدهما يمثل الغرب والآخر يضم بقية الكوكب؟. كيف يمكننا إذن الخروج من المأزق الحالي والعودة إلى الحياة الدولية السلمية، إن لم يكن من خلال الدبلوماسية؟. كيف يمكننا الاختباء من حقائق أن روسيا ستبقى جارة فرنسا وجارة أوروبا، ويوم أو آخر سيتضرر الجميع للتفاوض مع هذا الجار؟.
يجب أن يعمل الجميع من أجل السلام، فالضربات النووية ليست مغامرات تافهة، بل هي جزء من “اللعبة الكبيرة”، وأولئك الذين يفكرون في استخدامها يعتقدون أنهم سيلحقون الضرر بالعدو، ومن المؤكد أنهم لم يتخيلوا للحظة أن مواطنيهم سيكونون على خط المواجهة، ويتجولون على أنقاض هيروشيما الجديدة مع تعليمات لإطفاء الضوء لتوفير الطاقة، لأنه إذا فاجأتهم هذه الصورة في نومهم، فلن يناموا بعد الآن، يختم ريمبو كلامه.