مجلة البعث الأسبوعية

نذير نبعة يستعيد الجمال الدمشقي.. “أشخاص في حالة ترقب وانتظار في حالة الصمت الطويل!!”

“البعث الأسبوعية” ــ فيصل خرتش

لمدينة دمشق القديمة حضورٌ واسع في لوحات الفنان نذير نبعة، وقد سمّى هذه اللوحات بـ “الشاميات” فرسم لها حدوداً تعبيرية ومواصفات شكلية منسوجة في حضرة مخيلة ورغبة في نبش ركام الإبداع. داخل البيوت الدمشقية المفتوحة على ذاكرة الإنسان، وملامح الوجوه الحالمة، ورقص الأجساد في فضاء التكوين، والمتجلية في أزياء وملابس متنوعة الألوان.. لقد استعاد الجمال الدمشقي بكلّ غوايته، واستنجد بالزخرفة الإسلامية ومظاهر الحياة، من قنديل الإضاءة ومزمار الحي ورقص الحسان الموشاة بأزهار وورود دمشق، وزيّنها بالحلي والجواهر لتصبح آية للناظرين.

وُلِدَ الفنان نذير نبعة، عام 1938، في حي المزّة، ونال الشهادة الثانوية. وخلال هذه الفترة بدأت عوامل نبوغه تظهر في الرسم، وقد أوفد إلى القاهرة، وهناك تعرّف على الفنانة شلبية إبراهيم، فتزوّجا، وعادا معاً إلى دمشق بعد أن نال شهادة التخرج عن عمال مقالع الحجارة.

والده كان يعمل فلاحاً في الأرض، ووالدته تعمل في تطريز الملابس، وكان يرسم طيوراً وزخارف نباتية على الأثواب التي تطرزها الأم، ومنتهى سعادته عندما يرى الفتيات يرتدين تلك الثياب، فيرى رسوماته تقفز على صدورهن، فيشعر بالفرح والنشوة.

عيّن بعد عودته من القاهرة أستاذاً في مدينة دير الزور، وحين وصلها دهش من كثرة أشجار الغرب التي تنتشر على ضفاف الفرات، فراح يرسمها، ويلونها بألوان نابعة من القلب، إضافة إلى لوحات مستوحاة من أساطير حضارة المنطقة، وأما المرأة فهي تشبه المرأة في أساطير حضارة ما بين النهرين.. إنها كعشتار التي ولدت من رغوة نهر الفرات.. لقد رسم الحوت والقمر والطلسم ومردوخ وسيزيف، متأثراً ومشبعاً بحضارات المنطقة.

أثرت نكسة حزيران في الفنان المبدع فرسم لوحات عن النابالم الذي استخدمه الصهاينة ضد الجنود السوريين والمصريين، ورسم الفدائي الفلسطيني باعتباره الرجل الوحيد الذي يقاوم إسرائيل: “لقد كانت هزيمة حزيران صفعة قاسية على وجوهنا”.. إن رسم شخصية الفدائي كانت تنقذ روحه من الضياع.

نقل بعدها إلى دمشق، إلى كلية الفنون الجميلة التي كانت قابعة في شارع السادات، وجعل من منزله، في ساحة الروضة، منارة ثقافية، يزوره المثقفون وأهل الإبداع ومن لف لفهم. وقد احتلت صورة الفدائي الجزء الأكبر من لوحاته، وكانت على هيئة “بوست”، أو ملصقات، فقد انخرط الفنان في المقاومة الفلسطينية عضواً في حركة فتح، واشتغل عدداً كبيراً من الملصقات، وكثيرون كانوا يعتبرونه فلسطينياً كون رسوماته كانت بمثابة الناطق الرسمي للحراك الفلسطيني. وتميّز في لوحاته بعرضه لعناصر المكان والطبيعة والتفاصيل التاريخية للحضارات القديمة، والمرأة هي البطل الرئيسي، وهي الكتلة الأهم في اللوحة، إنّها ملونة كالحياة، هي الأم والزوجة والحبيبة والصديقة والأخت، إنّها فارسة شجاعة تزرع الحقول ثمراً، وتذهب إلى المصانع، وتبني الأجيال.. إنّها الوطن بمعناه الكبير.

في تلك الفترة، بدأ برسم “الدمشقيات” ليعلّم الفنانين تجربة اللون والصبر والتشكيل، فقد كان ينظر إلى الطبيعة بعين المتأمل والمحبّ لها، فالرمّان يشبه البيت الدمشقي: “فقير من الخارج غني من الداخل”؛ وباعتبار أنه عاش في بستان، كان يرى الرمّان عبر مراحله، من الزهرة إلى النضوج.. إنّه يذكرنا بالأغاني الزجلية السورية، فيندر أن تجد مغنياً لم يتغن بالرمان: “إنّه المحبّب إلى قلبي، لذلك رسمته في كثير من اللوحات.. والتفاح الذي يشدني منذ كنت طفلاً حتى أصبح عنصراً تشكيلياً! وبعد ذلك يأتي الوعي والثقافة لتعزيز هذا المفهوم”.

“هالة سحرية تلك التي تنعكس في اللوحة: نظرات عازفة الناي وحضور الورد والرمّان، كأنك تفتح الباب على صورة متخيلة لدمشق”، وما على الفنان إلا أن يعود إلى جذوره ليعيد استخراجها بلغة بصرية تواكب الأشكال التعبيرية الحديثة، مع الحفاظ على خصوصية الهوية؛ “واللون في الحضارة يبقى لوناً.. ” – كما يقول الفنان نذير نبعة – “حتى تلامسه أصابع الريشة ثم سطح اللوحة، ويتحول إلى شعاع من ضوء”.. “طبعاً، أقصد النور الذي يصدر من اللون نفسه، وليس من مصدر خارجي، كالشمس مثلاً.. أنا أتكلم عن النور الموجود بألوان الأحجار الكريمة، إنّه نور داخلي وليس خارجياً، وحين تكون الإضاءة من الداخل تكون نوراً على نور.. أنا لم أستخدم اللون الأحمر، بل نوره، وكذلك اللون الأصفر، فأنا أوشح بضوئه وليس بلونه، والصمت هو السيد رغم الصخب من حوله.. في اللوحة أشخاص في حالة ترقب وانتظار في حالة الصمت الطويل”.

.. وأمّه كانت تمتلك كثيراً من “القواقع”، وكان يراها بالقرب من المصحف عندما كان صغيراً، فيشدّه لونها: “لماذا؟”.. “لا أعرف! فقد يعود ذلك إلى مرحلة ما قبل الوعي”. ومن خلال رمي القواقع على الأرض، تتكشف الحقيقة، وينفضح المستور، وإذا الأسرار أمامك! إنّها تشبه الأنثى التي لا يمكن اكتشافها.. إنّها تمتلك مزيداً من الأسرار، والفنان يقرنها بالأنثى، والقواقع – كالأساطير – ترتبط بالماء، ومن الماء يخرج كلّ شيء حي! والقنديل؟ ..”إنّه يرمز إلى النار والنور، والناي؟ ..”يرمز لوحدة الماء والنبات والهواء، وهذه الوحدة تخلق الموسيقا، هذه الأشياء التي تملأ لوحة للدمشقيات، إضافة إلى وجود المرأة”.. كلّ ذلك تحول إلى فعل تأمل له خلق إبداعي ناتج عنه ويدفع إلى التأمل من جديد.

الفنان يرسم ليتواصل مع الآخرين عبر لوحته، إنّه يحاوره، وهذا يعني إنّه يحبّ الآخر “الإنسان”، فعلى الفنان أن يحبّ لوحته لتصل هذه المحبة إلى الآخر.. لقد استطاع أن يوصل إلى المتلقي حالة من النشوة الروحية الصوفية التي ظهرت في العديد من شخوصه.

قال عنه الناقد الفني سعد القاسم: “تنقلت أساليبه بين الواقعية والتعبيرية والتجريدية، وهذه المدارس لا شيء يربط بينها سوى البراعة والإبداع”.

لقد رسم المدن المحروقة؛ وبغداد، مثل غيرها، تعرضت للدمار والموت، ومجزرة قانا، ومجزرة بحر البقر، وباقي المدن، مثلها مثل المدن الفلسطينية، ومريم المجدلية ظلمت كما المسيح، وهكذا فلسطين.. إنّها قدسية دافع عنها المسيح دفاعه عن الإنسان بأخطائه وجماله.. أنا أدافع عن القضية الفلسطينية، وليس لي إلا أن أرميها بقلادة من الورد.. “إن كنتم بلا خطيئة فلترموها بحجر”، هكذا قال السيد المسيح عندما رأى المجدلية.

توفي الفنان نذير نبعة في 22 شباط 2016، عن عمر يناهز الـ 78 عاماً، بعد صراع طويل مع المرض، وهو أحد الأعلام التشكيلية في سورية والوطن العربي. كان واحداً من مؤسسي الحداثة في التشكيل السوري. كرّم ونال وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، عام 2005. حاز على جائزة معرض غرافن عام 1967 ، وبينالي الإسكندرية عام 1968، وجائزة المدرسة العليا للفنون في باريس، عندما درس في “البوزار”، وذلك بين عامي 1971 و1974، وقد ساهمت في تطوير خبراته الفنية ومعارفه النظرية وثقافته التشكيلية.

كان دائماً يقول: “معلمي الأوّل بستان جدتي، وهناك صنعت المفاهيم والأشكال والرموز التي ترونها في لوحاتي: نهر بردى وبساتينه، إلى جانب الأساطير السومرية والتدمرية، وفنون وجداريات ما بين النهرين.. رسوم الفخار والخزف من هنا، من هذه الأشياء الجميلة يتفجر المجال الحيوي لأعمالي”.

اهتم بالبيت الدمشقي والبستان، وامتلأت قماشته بالخضرة الداكنة والحياة.. في لوحاته نزعة وجد صوفية عبر عنها بحوار لوني مع عناصر الطبيعة، وباستحضار البيئة الريفية الحالمة التي نشأ فيها، وجرّته ثقافته إلى الفدائي الفلسطيني والمدن المحروقة، والمرأة بكلّ طلاسمها وسحرها وأسرارها!!