مجلة البعث الأسبوعية

علاقات تحركها الأيديولوجية المشتركة.. الصين تعلي صوت دول أمريكا اللاتينية على الساحة الدولية

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

تعود علاقات الصين مع أمريكا اللاتينية إلى القرن السادس عشر، عندما أتاحت طرق التجارة البحرية تبادل الخزف والتوابل والحرير بين الصين والمكسيك. وبحلول أربعينيات القرن التاسع عشر، ذهب مئات الآلاف من المهاجرين الصينيين للعمل عبر المحيط الهادئ كعمال أو خدم ، ومعظمهم في كوبا وبيرو الذين كانوا يعملون غالباً في مزارع السكر أو مناجم الفضة. خلال القرن العشرين، ارتبطت العلاقات بين الصين وأمريكا اللاتينية في الغالب بالهجرة، حيث ظلت بكين منشغلة بالمشاكل المحلية مثل الحرب العالمية الثانية، والحرب الصينية وتطوير النظام الاشتراكي.

اعترفت معظم دول أمريكا اللاتينية من عام 1949 إلى بداية السبعينيات بجمهورية الصين، وبعد زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى بكين في عام 1972، اعترفت معظم دول المنطقة بجمهورية الصين الشعبية الشيوعية كممثل شرعي للصين على المسرح الدولي. كان نمو العلاقة بطيئاً جداً للغاية، ولم يكن اهتمام الصين بشكل أكبر بأمريكا اللاتينية إلا منذ المراحل الأخيرة من الحرب الباردة. بشكل عام، حتى أواخر التسعينيات، كانت العلاقات بين أمريكا اللاتينية وآسيا محدودة .

التحول الكبير

في عام 2000 ذهبت 2٪ فقط من صادرات أمريكا اللاتينية إلى الصين، ولكن حدث تحول كبير بعد ذلك بسبب أربعة عوامل:

  • جعل انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001 التجارة أسهل.
  • أدى التطور السريع للاقتصاد الصيني إلى زيادة كبيرة في طلب الصين على الموارد.
  • حدثت زيادة في تصدير السلع الطبيعية من أمريكا اللاتينية.
  • وصول الحكومات اليسارية في بلدان أمريكا اللاتينية إلى السلطة، وعندها فقط، أي في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، بدأ الجانبان في إقامة روابط ملموسة اقتصادية وسياسية وثقافية وغيرها.

في العقدين الماضيين، أقامت الصين علاقات ودية مع دول أمريكا اللاتينية إلى  هذا الحد، وبهذه الإمكانات يمكن القول إن أمريكا اللاتينية أصبحت أكثر فأكثر ساحة خلفية للصين وأمريكية أقل. لقد استندت المشاركة السياسية للصين منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على استراتيجية التعاون “بين الجنوب والجنوب” أو “التعاون متبادل المنفعة”.

اندمجت مبادئ السياسة الخارجية الصينية المتمثلة في “احترام السيادة”، و”عدم التدخل” في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، مع المصالح السياسية والاقتصادية لزعماء اليسار في أمريكا اللاتينية (هوغو شافيز في فنزويلا، لولا دا سيلفا في البرازيل، إيفو موراليس في بوليفيا، رافائيل كوريا في الإكوادور). على الرغم من أن قادة الجناح اليساري في أمريكا اللاتينية كانوا حذرين من الاضطراب المحتمل للعلاقات التجارية مع الولايات المتحدة، إلا أنهم انجذبوا إلى فكرة التعاون الاقتصادي الأقوى مع بكين، مما قد يقلل من اعتمادهم على أمريكا، الذي بدأ ينخفض بشكل فعلي.

الصين الشريك التجاري الرئيسي للمنطقة

أصبحت الصين في العقدين الماضيين شريكاً تجارياً رئيسياً لأمريكا اللاتينية، ومقارنة بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، نمت التجارة مع الصين بشكل كبير من 14.6 مليار دولار في عام 2001 إلى 450 مليار دولار في عام 2022. وخلال نفس الفترة، تضاعفت التجارة بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية تقريباً من 364 مليار دولار إلى 758 مليار دولار، في حين التجارة مع الاتحاد الأوروبي تضاعفت من 98 مليار دولار إلى 197 مليار دولار. سمحت هذه الزيادة لبكين بأن تصبح أهم مصدر للسلع إلى أمريكا الجنوبية، وثاني أكبر شريك تجاري لأمريكا اللاتينية ككل، بعد الولايات المتحدة ولكن قبل الاتحاد الأوروبي بفارق كبير. يقدر الاقتصاديون والمحللون أن التبادل التجاري بين الصين وأمريكا اللاتينية، يمكن أن يتجاوز أمريكا 700 مليار دولار بحلول عام 2035.

تشير صادرات أمريكا اللاتينية إلى الصين بشكل أساسي إلى تصدير السلع الطبيعية مثل النفط، ومنتجات النفط، وخام الحديد والفحم والألمنيوم والنحاس والخشب وفول الصويا والسكر واللحوم، وغيرها من المواد الخام التي تحتاجها ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان للحفاظ على التنمية الصناعية، وإطعام عدد كبير من السكان الذين يتم رفع مستواهم عاماً بعد عام. بدورها، تصدر الصين بشكل أساسي منتجات مصنعة عالية القيمة مخصصة للاقتصادات الوطنية والمواطنين العاديين، كما وتعمل الصين على زيادة مشاركتها المالية في المنطقة.

استثمار الصين الأجنبي المباشر

في أمريكا اللاتينية، شرعت الشركات الصينية في الاستثمار الأجنبي المباشر، فقد استثمرت حوالي 160 مليار دولار في حوالي 480 صفقة بين عامي 2000 – 2020 معظمها من خلال عمليات الاندماج أو الاستحواذ على الشركات القائمة، وبدرجة أقل إنشاء شركات جديدة. تذهب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الغالب إلى بناء المصافي، ومصانع معالجة الفحم والنحاس والغاز الطبيعي والنفط واليورانيوم.

في الآونة الأخيرة، استثمرت بكين ما يقرب من 4.5 مليار دولار في إنتاج الليثيوم في المكسيك، ودول ما يسمى بـ”مثلث الليثيوم” وهي الأرجنتين وبوليفيا وشيلي، حيث تمتلك هذه الدول الثلاث أكثر من نصف الليثيوم في العالم، وهو المعدن اللازم لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية.

مولت بكين أيضاً مشاريع بناء في جميع أنحاء المنطقة، مع التركيز على السدود والموانئ والسكك الحديدية. تركز الصين أيضاً على “البنية التحتية الجديدة”، مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، والمدن الذكية، وتكنولوجيا الجيل الخامس. تسعى بكين أيضاً إلى تعزيز التعاون الفضائي مع أمريكا اللاتينية، بدءاً من الأبحاث الصينية البرازيلية المشتركة إلى إنتاج الأقمار الصناعية.

تقع أكبر منشأة فضاء خارجية للصين في صحراء باتاغونيا في الأرجنتين، ولدى الصين محطات فضائية في بوليفيا والبرازيل والإكوادور وفنزويلا. ومع ذلك، لا ينبغي المبالغة في أهمية الصين في مجال الاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة.

نهج الثنائي ومتعدد الأطراف

تم دعم التغلغل الاقتصادي للصين، ورافقه مشاركة أكبر في السياسة الخارجية في أمريكا اللاتينية على المستويين الثنائي ومتعدد الأطراف، فالاقتصاد والتجارة  يعتبران جزءاً من السياسة الوطنية.

منذ جولة الرئيس الصيني الأسبق جيانغ تسه مين في أمريكا اللاتينية التي استغرقت 13 يوماً في عام 2001، كان هناك العديد من الزيارات رفيعة المستوى من قبل رجال الدولة والدبلوماسيين، حيث زار الرئيس شي جين بينغ المنطقة 11 مرة منذ توليه منصبه في عام 2013.

على الصعيد الثنائي، تعتمد بكين على تعزيز الحوار السياسي مع كل دولة لتعزيز مصالحها في المنطقة من خلال استخدام الدبلوماسية الكلاسيكية 1 مقابل 1. لدى بكين اتفاقيات تجارة حرة مع تشيلي وكوستاريكا وبيرو والإكوادور، وتوجد اتفاقيات مماثلة مع دول أخرى.على سبيل المثال، في نيسان من هذا العام، أثناء زيارة الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا إلى الصين، وقع البلدان أكثر من 20 اتفاقية، بما في ذلك اتفاقية التجارة المتبادلة باليوان والريال، وهي صفعة مباشرة في وجه أمريكا وطريقة لتسريع نزع الدولرة عن العالم. كما وقعت الصين  شراكات استراتيجية شاملة، وهو أعلى مستوى من التعاون الصيني مع البرازيل والأرجنتين وتشيلي والإكوادور والمكسيك وبيرو وفنزويلا.

على الجبهة  متعددة الأطراف، تنتهج الصين استراتيجية طويلة الأجل للمشاركة في المشاريع أو المنظمات الإقليميةن حيث يظهر اهتمام الصين بالمنطقة بشكل أكثر وضوحاً في سياق “طريق الحرير الجديد ” في الصين الذي بات يعرف رسمياً باسم “الحزام والطريق”، والذي تم توسيعه ليشمل أمريكا اللاتينية في عام 2017.

ومنذ ذلك الحين، وقعت حوالي 20 دولة في المنطقة مذكرة تعاون مع الصين في مشروع “طريق الحرير الجديد”، كما وتعتبر الأرجنتين والبرازيل وشيلي وإكوادور وبيرو وأوروغواي أعضاء في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية. يتعدد الشتات الصيني في أمريكا الجنوبية، ويوجد العديد من الصينيين في دول مثل بيرو والبرازيل وكوبا وباراغواي وفنزويلا. للشتات بالطبع تأثير في جميع هذه البلدان، وغالباً ما يكون بمثابة جسر يربط بين البلدين.

القوة الناعمة الصينية

وبطبيعة الحال، يلعب الصينيون أيضاً بطاقة القوة الناعمة، فمن خلال تعزيز الروابط الثقافية والتعليمية، فإنهم يثبتون أنفسهم كبديل مرغوب فيه لمنافسين آخرين. تتضمن القوة الناعمة في الممارسة العملية كـ إنشاء معاهد كونفوشيوس، و “الدبلوماسية بين الدول”، والوجود الإعلامي، والدبلوماسية العامة رفيعة المستوى، وأنشطة الشركات الصينية.

تجري القوة الناعمة تماشياً مع إرشادات شي جين بينغ لعام 2022 من أجل “تعزيز وتحسين عمل الاتصالات الدولية”. لقد أنشأت الصين 44 معهداً بالإضافة إلى 18 فصلاً دراسياً لتعليم اللغة والثقافة الصينية.

دوافع التعاون 

تتنوع دوافع التعاون بين الصينيين والأمريكيين اللاتينيين، ولكن يمكن اختزالها في دافعين رئيسيين: المال والأيديولوجية. فمن حيث المال ، كل شيء واضح، حيث تتم تجارة البضائع، لأن بلدان أمريكا اللاتينية وفيرة في الموارد الطبيعية مثل النفط والفحم وخام الحديد والليثيوم والأغذية الصحية، وتحتاج الصين إلى هذه الموارد لمواصلة تسجيل نمو الناتج المحلي الإجمالي وإطعام سكانها.

إضافة إلى ذلك، تعد أمريكا اللاتينية منطقة مثالية حيث يمكن للصين بيع سلعها الاستهلاكية بالإضافة إلى تكنولوجيا “التكنولوجيا الفائقة”، بما في ذلك التكنولوجيا العسكرية والفضائية. حيث تعرف العديد من البلدان مثل فنزويلا أو كوبا كيفية تسجيل النقص في المواد الغذائية، والضروريات الأخرى المختلفة، والصين هي الدولة التي يمكنها إغراق كل دولة بمنتجات “صنع في الصين”. وبعيداً عن الربح بأي شكل من الأشكال، فإن العلاقات بين الصين وأمريكا اللاتينية تحركها الأيديولوجية، ويمكن القول بشكل أكثر دقة أيديولوجيتين: أيديولوجية الاشتراكية وأيديولوجية معاداة أمريكا.

معاداة أمريكا

إن الجزء  الذي لا يتجزأ من الأجندة الاشتراكية هو معاداة أمريكا، ولذلك تتطلع دول أمريكا اللاتينية إلى الصين للخلاص من الهيمنة الأمريكية على أساس مبدأ مونرو، مما يعني أنه لا يمكن أن يكون هناك سوى رئيس واحد في الأمريكتين، والولايات المتحدة، وكل الآخرين تابعون. ومن المفارقات إلى حد ما، أنه بفضل بكين، يمكن إسماع صوت الدول الصغيرة في المنطقة على الساحة الدولية، ويمكن تحييد  المحاولات الأمريكية لتغيير النظام من خلال الانقلابات الداخلية والعقوبات الدولية.

تستحق أصوات جميع دول أمريكا اللاتينية الأكثر، وخاصة  إذا كانت مدعومة من الصين. فالصين، مثل روسيا، تنشر نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب يكون أكثر عدلاً، لأن القوة في العالم لن تقوم على نتائج الحرب العالمية الثانية. يجب أن تتمتع البرازيل الواحدة بالتأكيد بسلطة جيوسياسية أكبر، وأن تكون عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ولماذا لا تكون المكسيك، وهي الدولة الأكثر اكتظاظاً  بالسكان الناطقة بالإسبانية في العالم (126 مليون نسمة) وغالباً ما كانت ولا تزال هدف جارتها الشمالية؟.

على الرغم من أن الصين قوة لها وزنها، إلا أنها تستفيد جيوسياسياً من التعاون مع دول المنطقة،  وبناءً على ذلك قد تكون  فرص إصلاح النظام العالمي رسمياً في اتجاه متعدد الأقطاب أكبر في حال  لاقت دعم  أكبر عدد ممكن من البلدان في الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، والمنظمات الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، فإن الشراكة مع أي دولة ستكون جذابة للصينيين، لأنها تحد من القوة العالمية الأمريكية، وتقربهم مما يسمى القرن الصيني.