مجلة البعث الأسبوعية

التصنيع الزراعي …جهود متواضعة لا ترضي المنتجين الزراعيين ..وتكامل ورقي لايحقق الاهداف!

البعث الأسبوعية – بشير فرزان

لايزال ملف التصنيع الزراعي حائراً يترنح بين العديد من الجهات ،فكل قطاع معني بالموضوع يُثني على مبدأ التصنيع الزراعي ويرحب الموضوع لكن حقيقة الواقع ما تحقق في هذا المجال متواضع جداً ولايرضي طموح المنتجين ،فالإنتاج الزراعي كبير ومتنوع لكن التصنيع بعيد المنال رغم الجهود التي بذلت وتبذل ومن هنا لابد من الكشف عن العلاقة مابين القطاعين الزراعي والصناعي في الواقع الاقتصادي السوري والتي تميزت بطابع التبادلية وارتباطها بسلسلة حلقات الإنتاج لكلا القطاعين وخاصة  بتوفير الاحتياجات لكل منهما سواء من مستلزمات الإنتاج الجاهز أو نصف المصنع ،ولهذه العلاقة دوراً هاماً في تطوير الاقتصاد المحلي عموماً وتحقيق التنمية  الاقتصادية والاجتماعية حيث سمحت هذه العلاقة للقطاع الزراعي بتوفير الطلب المستقر والدائم على الإنتاج الزراعي والحيواني واستقرار دخل المزارعين كما شجعت على التوسع وزيادة المردود وخفض التكلفة مع تحسين نوعية المنتج  إضافة إلى المساهمة في تحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من المنتجات الإستراتيجية ،ناهيك عن فرص تطوير الصناعات الريفية التقليدية والحديثة ،اما الصناعة فتمكنها هذه العلاقة تامين مستلزمات الإنتاج الزراعية والحيوانية وتقليص تكاليف الاستيراد والنقل والتخزين والقطع الأجنبي  الى جانب خلق طلب دائم ومتطور من مستلزمات الإنتاج والآليات الزراعية والأسمدة وأجهزة الري الحديث والأعلاف والأدوية البيطرية والمبيدات ومواد التعبئة والتغليف .

صناعة متأصلة

صناعات عديدة ومختلفة اشتهرت بها سورية عبر الزمن وذاع صيتها حتى في أعظم الدول الصناعية ،هذا التاريخ العريق مر بمراحل تطور كبيرة ويوضح الدكتور احمد سمير”اقتصاد”  أن أهم مايميز تلك الفترة هو العلاقة التبادلية بين قطاعي الزراعة والصناعة التي أعطت قيمة مضافة للمنتج الزراعي في الاقتصاد الوطني وساهمت في زيادة الدخل و تحقيق الاستقلال الاقتصادي ،بدليل أن معظم تلك الصناعات السورية اعتمدت في نشأتها على المواد الاولية من منجاتنا الزراعية التي تجسدت بمنتجات الزيوت والصابون ومنسوجات الحرير والصوف والجلود وغيرها من المنتجات التي اشتهرت باسم صنع في سورية ،ويضيف سمير تمثلت العلاقة بين الزراعة والصناعة منذ القرن الماضي بزراعة وتصنيع التبغ  وزراعة القطن وحلجه وغزله ونسجه وحياكته إضافة إلى إقامة معامل السكر والزيوت والكونسروة والمطاحن وغيرها بالإضافة إلى إقامة العديد من الشركات الخاصة والمساهمة الكبيرة في مختلف المدن السورية وبشكل خاص في دمشق وحلب وحمص وحققت نجاحات كبيرة في التشغيل والإنتاج والتصدير ،يتابع سمير تطبيق قوانين الاصلاح الزراعي وتأميم المعامل الخاصة كانت مرحلة مختلفة حيث تولت فيها الحكومة اعداد الخطط الخمسية لتطوير الاقتصاد ودعم القطاعين الزراعي والصناعي بإقامة السدود وأقنية  الري واستصلاح الأراضي وإحداث الجمعيات التعاونية الزراعية ودعم المزارعين والتوسع في الانتاج الزراعي وخاصة في المحاصيل الإستراتيجية سواء في مجال القروض أوفي توفير مستلزمات الانتاج بأسعار مدعومة وبشروط ميسرة وتقديم أسعار مشجعة لمنتجاتهم .

توازي الدعم

جاءت قوانين دعم الزراعة في تلك المرحلة بالتوازي مع الدعم الصناعي حيث تم التوسع في إقامة المحالج ومعامل الغزل والنسيج والألبسة والأصواف والجلود وصوامع ومطاحن الحبوب ومعامل السكر والألبان والزيوت وتصنيع العنب والكونسروة التي تشكل المنتجات الزراعية والحيوانية إنتاج لها كما تمت إقامة العديد من المعامل التي تحتاجها عملية تنمية القطاع الزراعي مثل معامل الأسمدة الفوسفاتية والازوتية  واليوريا والجرارات والأعلاف وترافق ذلك مع تطوير شبكات النقل الطرقية والسكك الحديدية ،وبحسب سمير توجت مرحلة الانفتاح على القطاع الخاص بإصدار قانون تشجيع الاستثمار الذي تضمن تقديم العديد من التسهيلات والإعفاءات مما سمح بإقامة مصانع متطورة كبيرة  ومتوسطة وصغيرة في مختلف الصناعات الغذائية والنسيجية  ونشطت حركة الصادرات .

كشف الفجوات

أظهرت فترة الحرب على سورية السلبيات العديدة للعلاقة التبادلية مابين القطاعين الزراعي والصناعي كوجود فجوة بين حجم الإنتاج الزراعي  كالقطن والخضار والحمضيات وبين الطاقة التصنيعية القائمة لهذه المنتجات ويرى الاقتصادي الزراعي علي رضوان أن الفجوة بين الإنتاج الصناعي من مدخلات الإنتاج الزراعي وحلقات الإنتاج الأخرى أدت إلى تصدير الإنتاج غير المصنع محليا كمادة خام دون الاستفادة من القيمة المضافة  التي يمكن تحقيقها من خلال عملية التصنيع كالقطن والغزول القطنية والحمضيات و الصوف والجلود و المنتجات العطرية ،ويرى رضوان ان رفع أسعار الطاقة وتخفيف الدعم  المقدم للمزارعين أدى الى ارتفاع تكاليف الإنتاج وإساءة استخدام عملية الدعم كما كشفت هذه المرحلة محدودية تطوير النوعية ومردود  المنتجات الزراعية والصناعية و تدني كفاءة إدارة الموارد المائية واستنزاف الموجود منها وضعف الانتقال إلى الري الحديث ،وتسبب تراجع  تربية دودة القز إلى ضعف إنتاج الحرير الطبيعي والمنتجات النسيجية التراثية ،مما أدى إلى انخفاض نسبة المشتغلين في قطاع الزراعة و فشل تجربة إنتاج وتصنيع  القطن العضوي ،ومن أهم عيوب تلك الفترة التأخر في إقامة مشروع تصنيع العصائر في اللاذقية وتعثر مشروع عصير الجبل في السويداء

الواقع الزراعي

تراجع الإنتاج المحلي الفعلي أو المسوق من المنتجات الزراعية والحيوانية التي  تشكل مستلزمات إنتاج العديد من الصناعات الغذائية والنسيجية كالقطن والقمح والشوندر السكري ،فبحسب رضوان هناك العديد من الأسباب لتراجع المحاصيل الإستراتيجية أهمها التي نتج عنها قطع أعداد كبيرة من الأشجار وصعوبة جني المحاصيل ونقلها وتسويقها إضافة إلى ارتفاع تكاليف الأسمدة والبذار والمبيدات والعلف والأدوية البيطرية  والحصول على الطاقة والتأخر في تحديد أسعار شراء بعض هذه المنتجات المحصور بيعها وتسويقها بالجهات الحكومية من المزارعين مما أدى إلى عدم تسليمها للجهات العامة المعنية وبيعها أو تهريبها بأسعار أعلى كالقمح والقطن أو العدول عن زراعتها  كالشوندر السكري والانتقال لزراعة محاصيل أخرى أكثر اقتصادية بالنسبة للمزارع ،بالرغم من لجوء الحكومة إلى التعاقد مع شركات خاصة لنقل القطن والقمح من المناطق التي يسيطر عليها المسلحون من أجل تامين مايكفي من هذه المنتجات إلى المحالج ومعامل الغزل والمطاحن .

حلول اسعافية

عملت الجهات المعنية خلال الأزمة على رفع أسعار المحاصيل الإستراتيجية و توزيع الأسمدة و إعفاء الدواجن والأبقار من ضريبة  الدخل لمدة خمس سنوات ، وتؤكد وزارة الزراعة على التسهيلات التي قدمتها الحكومة لتسويق المحاصيل الإستراتيجية  وتطبيق تعريفة الكهرباء الزراعية على منشآت الثروة  الحيوانية وتسعير المحروقات بسعر الاستهلاك المنزلي ووقف ضريبة لأعلاف والسماح بالاستيراد دون موافقة مؤسسة الأعلاف والإعفاء من الرسوم الجمركة عند استيراد الأبقار الحية بالإضافة إلى الموافقة على نقل معامل الأدوية البيطرية المرخصة إلى الأماكن الآمنة  والسماح باستيراد الآليات الزراعية  المستعملة  واستمرار توزيع المقنن العلفي بأسعار مدعومة وعدم تنظيم المخالفات الزراعية و الاستمرار بالإرشاد الزراعي .

دعم صناعي

ساهمت الحكومة بتسهيل عمل الصناعيين فقامت بإعفاءهم من تصديق الفواتير الخاصة بالمواد الأولية و مستلزمات الإنتاج الصناعي المستوردة كما سمحت للصناعيين بنقل منشآتهم من المناطق الساخنة إلى المناطق الحرة والذين لم يتمكنوا من نقل آلاتهم المسجلة بالسجل الصناعي بسبب سرقتها او تخريبها باستبدالها بأخرى جديدة أو مستعملة من الأسواق المحلية أو مستوردة.ويكشف العديد من الصناعيين ان الحكومة سمحت للصناعيين  باستيراد مولدات الكهرباء المستعملة لزوم منشآتهم وعملت على تنظيم توقيت تقنين الطاقة الكهربائية في عدد محدود من المناطق الصناعية بشكل لا يؤثر كثيرا على العملية الانتاجية ،وإعفاء الآلات الصناعية من الرسوم الجمركية والسماح باستيراد الآلات المستعملة .

قرارات غير موفقة

لم تكن القرارات الحكومية صائبة في ما يتعلق بدعم الزراعة والصناعة ويشير الباحث الاقتصادي منير المحمد أن بعض القرارات التي  اتخذتها الحكومة أثارت ردود فعل وخلافات في  الرأي فيما يتعلق برفع أسعار المحروقات والكهرباء أو فيما يتعلق بالرسوم الجمركية على المواد الجاهزة وفرض رسم الإنفاق الاستهلاكي على عدد من الصناعات المحلية  والأسعار التاشيرية وغيرها ،مما عكس تباينا واضحا في المصالح والآراء والمواقف التي ما تزال مستمرة حتى الآن ، وبعض القرارات تميزت بالارتجال والتسرع دون العودة الى دراسات معمقة لها وعدم مشاركة المزارعين والصناعيين  والتجار في  هذه القرارات ،

بناء العلاقة

أهمية العلاقة مابين القطاعيين الزراعي والصناعي يكمن في خلق فرص العمل وتحسين سبل العيش وعودة الكفاءات العلمية والفنية و رؤوس  الأموال التي غادرت سورية بسبب الأزمة ،ومن وجهة نظر الباحث فان هذه المرحلة تحتاج لإعداد نقلة نوعية جديدة لبناء هذه العلاقة من خلال وضع رؤية  مستقبلية لإعادة هيكلة وتطوير هذين القطاعين والقطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى المرتبطة بهما ،في إطار إعادة هيكلة  الاقتصاد السوري بمجمله ووضع الخطط واتخاذ الإجراءات والتدابير المطلوبة لتنفيذ هذه الرؤية سواء بالشكل الفوري أو على المدى القصير والمتوسط  لتمكين سورية من الانتقال من الأزمة إلى النهوض ،كما تطلب العلاقة مابين القطاعين إجراء مسح فوري شامل لكل من القطاع الزراعي والصناعي للوقوف بشكل دقيق وصحيح على أوضاع كل منهما من قبل المكتب المركزي للإحصاء وإعلان نتائجه ووضعها في متناول المعنيين والدارسين للاستفادة منها في بلورة السياسات والإجراءات المطلوبة لتطوير هذين القطاعين وتحليل سلسلة القيمة للمنتجات الحالية والمستقبلية التي تشكل هذه العلاقة لتحديد متطلبات كل حلقة إنتاج من هاتين السلسلتين  من حلقات سلسلة الإنتاج في القطاع الآخر من أجل توفيرها وتطويرها في كلا القطاعين والقطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى ،والعمل على ترويج الفرص الاستثمارية المستهدفة  لتفعيل التشابك الزراعي الصناعي وطرحها للاستثمار من قبل القطاع الخاص أو بالمشاركة مع القطاع العام وتشجيع البحث والتطوير باحتياجات القطاعين  ذات الأولوية  وترشيد استخدام المياه والطاقة ومراعاة المتطلبات البيئية ،بالإضافة إلى إقامة التجمعات العنقودية الأفقية والشاقولية في الصناعات النسيجية والغذائية  في المناطق الملائمة اقتصاد يا واجتماعيا لهذه العناقيد .

اراء علمية

يرى بعض الاخصائيين والخبراء انه لابد من خلق المزيد من القيمة  المضافة للمنتجات المحلية كالتصميم والنوعية والتعبئة والتغليف ،و خلق فرص عمل لائقة لتحسين سبل العيش بما يساهم في تنمية  الريف والمناطق الزراعية بالتوازي مع إعادة تأهيل الأراضي الزراعية ومعالجة الآثار البيئية السلبية التي تأثرت بها لتسهيل عودة المهجرين والنازحين إلى أراضيهم وقراهم وتوفير البيئة لمعاودتهم  العمل والإنتاج من جديد ،ومن وجهة نظر علمية لابد من إعداد وتنفيذ البرامج التدريبية اللازمة لسد النقص الكبير  الموجود في  اليد العاملة المؤهلة وبشكل متكامل ،وإعادة منح القروض متوسطة وطويلة  الأجل وتوفير  التمويل  اللازم بشروط ميسرة  للمزارعين والصناعيين وتقديم مستلزمات الإنتاج الزراعي المدعومة بشكل فعال ،ولابد من تحديد  أسعار مجزية  للمحاصيل الإستراتيجية وإعلانها  بشكل مسبق بما يشجع على زراعة و تسويق هذه المحاصيل ، وتحديد المساحات المزروعة من المحاصيل الإستراتيجية بشكل خاص القطن بما يكفي حاجة الاستهلاك المحلي وبما يتناسب مع طاقة وحاجة التصنيع  المحلي من هذه المحاصيل وتحقيق  قيمة مضافة منها وعدم تصديرها كمادة خام.

 

وجهة نظر

إذا كنا نبحث بشكل جدي وواقعي عن علامة ” صنع في سورية ” لابد لنا الوقوف على جميع الأفكار العلمية والدراسات والخبرات لدعم المنتج الزراعي وتحويله إلى صناعة نرتقي بها ،وهنا يمكننا أيضا التعويل على الماضي العريق لصناعتنا النسيجية والغذائية وغيرها من المنتجات التي مازالت إلى الآن ورغم كل الأوجاع الاقتصادية تحافظ على سمعتها الطيبة ولابد ان نذكر انه رغم الفجوات التي أظهرتها الحرب إلا أننا لا ننكر النهضة الزراعية والصناعية في مرحلة ماقبل الحرب  فالمنتجات المحلية ضاهت المستورد في تلك المرحلة .