الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

رياض الصالح الحسين

حسن حميد

أشعرُ، وكلما مرّت عليّ ذكرى رحيل الشاعر رياض الصالح الحسين، بالحزن الغامق العميم، وحرقة القلب اللاذعة، والأسى العميق لأنه رحيل يشبه رحيل الطيبة، وغياب يشبه غياب الأمهات، وبكاء يشبه بكاء الصحارى في فصل الشتاء، ولوعة ملأى بالضعف والذبول.

حياة الأدباء والفنانين وأهل الإبداع، هي عادة مركبة، وتقسم إلى ضفتين: ضفة الحياة المعاشة، وضفة الإبداع، ولكلّ من الضفتين صفات وبعضها يعوّض بعضها الآخر، فحياة جان جينيه الفرنسي المعاشة (مثالاً) كانت طفولة ملأى بالآلام والغربة والأسئلة التي لا أجوبة لها، ولكن حياة إبداعه كانت ملأى بالزهو والتأييد، لأن الذين نظروا إلى إبداعه فرحوا بجمالياته، ولذلك ما عادت حياته المعاشة المريرة سوى طيف خلفي يتبدى من بعيد، وكثيرون من أهل الإبداع كانوا أهل حياتين: معاشة وإبداعية، فكانت إحداهما تعوّض ما فات الأخرى من مواقفة للأحلام والرجاءات، لكن الحياة التي عاشها الشاعر رياض الصالح الحسين، كانت طافحة بالألم طوال حياته، وكذلك كانت حياة إبداعه التي لم تعوّض ما لفّ حياته المعاشة من أوجاع رافقتها حتى الساعة الأخيرة، وقد تمنّى لها، ليل نهار، أن تصفو.

ولادة الشاعر رياض الصالح الحسين (1954-1982) كانت في مدينة درعا، لأسرة ريفية من شمال مدينة حلب، فتنقل مع أسرته حيث كان ينتقل عمل والده، ولم يكمل دراسته لأنّ المرض أطبق عليه، فأصيب بالصمم، ولم ينطق إلا بصعوبة شديدة، كان عدد أفراد أسرته كبيراً، والأحوال المادية سيئة، والعناية الصحية غير متوفرة، لذلك ورغم معلولية الجسد، مضى رياض إلى العمل في سنّ صغيرة، لكي يفرح أمّه ببعض الليرات، ثم راح يثقف نفسه بنفسه لأنّ صداقاته وجّهته نحو الكتب، والشعراء، والفنانين، بعد أن عمل في مؤسسة الأمالي الجامعية، وفي مطبعة وزارة الثقافة ورّاقاً، وتعرّف إلى بعض الشعراء والأدباء والفنانين والصحفيين، واستمع إلى نصوصهم الجديدة، وقرأ كتبهم، فراق له أن يكتب مطالعات نقدية في الصحف، وقد نجح مرّات عدة، ثم انتقل ليكتب قصيدة لافتة جعلت أصدقاءه ينادونه بالشاعر، لقد بدأ في كتابة الشعر في عام 1976 (وهو في عمر 22 سنة)، فلاقت قصائده تعاطفاً ممن هم حوله من الأصدقاء، واستحساناً، فشجعوه على الكتابة التي سمّوها بـ “المختلفة”، وراح ينشر قصائده في الصحف اليومية، وبعد ثلاث سنوات أصدر ديوانه الشعري الأول “خراب الدورة الدموية” (1979)، وقد لاقى تصفيقاً عالياً ممن أحبوه، ولاقى صدوداً عبوساً  من الكثير من الشعراء والأدباء الذين تمترسوا وراء الاتجاهات والتيارات الأدبية التي غدت ممالك أدبية وإبداعية مسوّرة!

ثم أصدر بعد سنة ديوانه “أساطير يومية” (1980)، وقبل وفاته (1982) بشهور، أصدر ديوانه الثالث “بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس”، وكانت لديه قصائد أعدّها أيضاً لديوان رابع عنوان “وعل في الغابة” صدر بعد وفاته.

أربعة دواوين شعر طوّبت لرياض الصالح الحسين حضوراً شعرياً مهمّاً بوصفه شاعرَ قصيدة نثر مدهشة، وغنية، وبسيطة، ومفاجئة، وممتلئة مثل حبة لوز، قصيدة تتحدث عن حبّ مختلف وطويل وفي طيّه أسئلة ثقيلة لا أجوبة لها، قصائد تتحدث عن دنيا من أحلام وأعشاب، وعصافير، وموسيقا، وصباحات، وأطفال؛ قصيدة تواجه الموت كثيراً وكأنه الحياة، وتواقف المدن وكأنها الكتب، وتنادي العشق وكأنه الغائب المنتظر، وتسهر من أجل الصّباحات النّدية العفية.

أربعة دواوين من الشعر أذاعت اسم رياض الصالح الحسين، ونشرته في جميع أرجاء البلاد العربية، فصار سؤال الإبداع يدور نقداً حول قصيدته الجديدة.

لكن هذه الدواوين الشعرية المدهشة بإبداعها لم تكن هي الضفة الإبداعية الأخرى التي تمحو آلام ضفة حياته الأولى التي خاض في وحولها طويلاً، ولم تكن حياته الإبداعية لتذكر من دون أن تذكر حياته الصعبة بأحداثها، والقاسية بصدودها.

وأيّاً كانت الحال، فإنّ مدونة رياض الصالح الحسين الشعرية مدونة مهمّة بغناها وجمالياتها وما طرحته، ولعلّ الحياة الصعبة التي عاشها كانت هي نبعة إبداعه، مثلما كان شعره الجميل سبب خلوده.

Hasanhamid55@yahoo.com