مجلة البعث الأسبوعية

الأجور الضعيفة تدفع الشباب باتجاه منصات التواصل صاحبة الأرباح الدولارية ومخاطر شح الكفاءات تواجه الاقتصاد

دمشق – رامي سلوم

تعتمد نسبة واسعة من الشباب على ما يعرف بالمنصات الصوتية لتحصيل دخول شهرية تغنيهم عن مشقة العمل التقليدي الذي باتت أجوره في الغالب غير مجدية بفعل واقع التضخم وعدم مواءمة الأجور مع المتطلبات المعيشية، بالإضافة لعدم حصول بعضهم على فرص عمل مناسبة، بينما يعتبر دخل تلك المنصات الإلكترونية مكملا أو مساندا لدخل العمل لدى البعض الآخر ولو كان يفوقه قيمة.

وينسحب تأثير منصات الأنترنت الربحية سلبيا على واقع الاقتصاد السوري المحلي، بسبب ابتعاد نسبة غير قليلة من الشباب عن دخول سوق العمل لأسباب كثيرة واعتمادهم على المنصات الإلكترونية الخاصة بالدردشة في تحصيل رزقهم والتي لا تقدم أي خبرة بناءة أو قيمة مضافة لسوق العمل الذي خسر نسبة واسعة من الكفاءات والعمال المهرة خلال سنوات الحرب على سورية، الأمر الذي حذر منه أخصائيون.

غير آمنة

المنشأ الصيني لتلك التطبيقات دفع الخبير في الأمن السيبراني رئيس مركز أمن المعلومات في الهيئة الوطنية لخدمات الشبكة سلمان سليمان إلى التحذير من إضرارها بخصوصية المتعاملين، واستهدافها لبياناتهم، لافتا إلى أن غالبية تلك التطبيقات لا تستخدم برامج حماية عالية ولا تعتمد بروتوكولات أمن بيانات المستخدم والمحافظة على خصوصيته، وبالتالي تضر بخصوصية الزوار فضلا عن وجود ثغرات أمنية في التطبيقات تتيح لشبكات الاحتيال عبر شبكة الأنترنت اقتحام الأجهزة وممارسة عمليات الابتزاز وغيرها من جرائم النصب والاحتيال عبر الشبكة.

كما اعتبر أخصائيون أن تلك المنصات بالإضافة لدورها في توسيع إطار الإدمان الإلكتروني، تحد من مهارات الشباب وخبرتهم الحياتية، والاجتماعية، وتفقدهم تقدير الذات الذي يتأتى من الإنتاج والتطور في العمل والاحتكاك العملي مع الآخرين، لصالح واقع افتراضي وهمي يمكن أن يفقد بأي وقت، ما يؤدي لصدمات كبيرة وتأثير سلبي شديد على الأشخاص.

انحراف

وذلك كله بالإضافة إلى المخاطر الأخلاقية الأخرى بسبب الشهوة المادية، ومحاولة زيادة المنافع المالية، وتغييب الواقع الحقيقي ما يسهل التنازلات الإلكترونية خصوصا عبر الاحتكاك مع أشخاص غير معروفين أو معروفة توجهاتهم، والذين من الممكن أن يعملوا لصالح شبكات لا أخلاقية لتوريط الشباب خصوصا الفتيات منهم، وقيامهم ببعض الممارسات التي يعتاد عليها رواد تلك المنصات مع الوقت، ومخاطر تلك المنصات على البناء الاقتصادي والعلمي للمجتمعات بسبب “تجميد” الشباب وتحييدهم عن روافع الاقتصاد الحقيقي والإنتاج، حيث تحول تلك المنصات مستحقات الأعضاء عبر شركات الصرافة الرسمية العاملة في سورية، في حال استلامها بالليرة السورية، مع وجود خيار تسليمها من قبل أشخاص بالدولار الأمريكي وتوصيلها لأي مكان، ويمكن اعتبارها من أكبر الشركات العالمية من حيث التشغيل حيث يتواجد فيها مئات آلاف الأشخاص من مختلف الجنسيات والبلدان.

وتعتبر التطبيقات الصوتية منصات اجتماعية تسمح بالمحادثة الصوتية والكتابية، علما أنه يوجد تطبيقات فيديو تعمل بنفس الطريقة غير أنها محظورة ولا يمكن تحميلها في سورية، وتسمح تلك التطبيقات بتحقيق أرباح عن طريق الحصول على هدايا إلكترونية.

كيف تعمل المنصات ؟

وبالنسبة لآلية عمل المنصات، فهي عبارة عن ما يمكن تسميته بالشركة، التي لديها تطبيق تسمح من خلاله بتأسيس مجموعات تسمى فيها بالوكالات، وتضم كل وكالة نحو 10 أشخاص، غير أن العدد النهائي لكل منصة يصل إلى عشرات بل مئات الآلاف، علما بأن الراغب في تأسيس وكالة بحاجة إلى تحويل مبلغ مالي تستبدله الشركة بعملة رقمية خاصة بالتطبيق (كوينز).

ويعمل صاحب الوكالة على استقطاب أشخاص قادرين على الدردشة من مختلف البلدان العربية والعالم، وفقا لطبيعة الوكالة التي يؤسسها، كما يتطلب نجاح عمله استقطاب فئة من الداعمين ليكونوا أعضاء في الوكالة، وهم من الخليجيين أو المغتربين أو غيرهم ممن لديهم القدرة المادية، والرغبة في الدردشة على تلك المنصات، حيث يقومون بصرف مبالغ مالية عبر الشركة إلى (كوينزات)، وبالتالي تقديمها كهدايا خلال الدردشة أو الفعاليات التي ينظمها صاحب الوكالة أو مديرها.

 وتحوي المنصات رموز على شكل هدايا مثل الورود والسيارات والذهب وغيرها، ولكل منها قيمة محددة بالكوينز، يتم إهداءها من قبل أعضاء المنصة لبعضهم، علما بأن كل عضو في الوكالة ملزم بتحقيق قيمة محدد من الكوينز (تارجيت)، عليه الوصول إليه شهريا للحصول على مبلغ مالي، وهو الأمر الذي يسمح له بالبقاء عضوا في الوكالة أو الاستغناء عنه في حال عدم قدرته على تحقيق النسبة المطلوبة وفقا لرأي مدير الوكالة.

وتعمل تلك المنصات بنظام الشركات فلكل إدارة نسبة خاصة من الأرباح، حيث تعود أرباح الهدايا إلى أعضاء الوكالة بنسبة محددة، ولمدراء الوكالات بنسبة أخرى عن كل عضو، وصولا لإدارة التطبيق أو المنصة التي تحقق أرباحا من مئات آلاف الأشخاص الموجودين، وبالتالي تعود إليها نسبة كبيرة من الأموال التي تصرفها شهريا، خصوصا أنها أساسا تكون قد تلقتها من الراغبين بتحويل الأموال إلى كوينز لتقديم الهدايا. 

غير مرخصة

الخبير في أمن المعلومات سلمان سليمان أكد أن هذه التطبيقات غير مرخصة، وتحوي مخاطر كبيرة، خصوصا أنها لا تحقق معايير الخصوصية وأمن معلومات المستخدمين، كما قد يتواجد فيها برمجيات خبيثة تتيح الدخول لأجهزة المستخدمين، نافيا أن يحقق استخدامها أي فائدة أو خبرة في العمل الإلكتروني للمستخدمين، أو تطوير للذات كونها عبارة عن تطبيقات دردشة لا تحقق أي قيمة مضافة إيجابية.

ولفت سليمان إلى أن تحديد حظر التطبيقات يتم وفقا لخطورتها على الأمن السيبراني الوطني، لافتا إلى أن البيانات الشخصية للأفراد تبقى خاصة بهم، وعليهم الحرص عليها باستخدام الوسائط الإلكترونية المعروفة، فمواقع تواصل شهيرة تستخدم بيانات المتعاملين علنا، ولا تزال تحظى بمتابعة وتحميل كبير عالميا.

وأكد سليمان أن التطبيقات الجديدة والعالية الانتشار تخضع للدراسة وتقييم المخاطر لاتخاذ قرار حظرها بالتعاون مع الشركاء، لافتا إلى أن بعض الشباب يرفضون عمليات الحظر ويحاولون الاحتيال عليها، ويلمحون إلى أن البيانات المستهدفة تخصهم وليس لديهم مشكلة في الوصول إليها، علما بأن غالبية المستخدمين لكافة التطبيقات غير الشرعية ليس لديهم الخبرة الكافية في التعرف على التطبيق ومعرفة المخاطر المحتملة، وإغلاق الثغرات الأمنية الموجودة فيها ومعالجتها، كما يستخدمون الأجهزة الإلكترونية الخاصة بهم نفسها بكل ما عليها من بيانات حساسة ما يعرضهم للمخاطر.

الصدمة

الأخصائية الاجتماعية هبة موسى نبهت إلى مخاطر الإدمان الإلكتروني التي تعززها تلك المنصات خصوصا أنها تطلب مدة ولوج محددة من المستخدمين يوميا والتي لا تقل عن ساعتين الأمر الذي يوسع مخاطر الصدمة لدى الشباب عند انهيار الواقع الافتراضي والاحتكاك العملي مع المجتمع، أو توقف تلك المكانة الوهمية التي لا تزيد عن كونها منصة على الأنترنت.

وأشارت موسى إلى العامل الأخلاقي الذي يواجه الشباب في مراحل عمرية مختلفة وسهولة التغرير بهم من الأصدقاء الافتراضيين، لافتة إلى أن التعرف الواسع على الثقافات التي تتيحها الوسائل العصرية لابد أن يحكمه العامل الأخلاقي أولا، غير أن السعي وراء الثروة السريعة والسهلة، ووجود أصدقاء السوء، والغرق في الواقع الافتراضي، قد يسهل الانجراف لفئة ليست قليلة من الشباب بسبب ضعف الوعي بتلك الوسائل وتعلم استخدامها من دون معرفة حقيقية بطبيعتها.

المكانة الوهمية

موسى رفضت وضع شماعة الضغوط الاقتصادية لتبييض الممارسات السلبية خصوصا التي تشكل خطرا على البنية المجتمعية وركيزتها الأساسية وهي الشباب، معتبرة أن المقارنة السلبية، ووصول أشخاص غير واقعيين ليكونوا مؤثرين في المجتمع والتشبه بـ”البلوجر” في ظل ضعف الوعي سبب خللا في معايير الثقة والمثل الأعلى وثقافة تقديس العمل والإنتاج والأخلاق والوازع الديني وغيرها.

ولفتت موسى إلى أن قيمة العمل لا تتأتى من المردود المادي وحده، والذي من الممكن زيادته والتوسع به مع زيادة الخبرة والإتقان في العمل والتقدم في المؤسسة، غير أن مكانة العمل تتأتى من الإنتاج وشعور الشخص بأهميته الفعلية والخبرة المتراكمة، والتعرف إلى الأقران، وتوسع حلقات المعرفة، ما يزيد الإحساس بالأمان المجتمعي والبيئة الآمنة التي يعيش فيها الشخص بسبب البعد الاجتماعي الواسع، وفقدان الشعور بالمكانة الحقيقية يدفع الأشخاص للجوء إلى المكانة الوهمية، وتقدير الذات من خلال الواقع الافتراضي والأصدقاء الافتراضيين، الأمر الذي يزيد الواقع سوءا. 

بدون إيجابيات

من جهته، حدد الخبير في شؤون العمل راكان إبراهيم أساسيات العمل معتبرا أن العمل الفردي غير المنتج ليس له اي قيمة وليس له إيجابيات، ولا يحقق دفعا للاقتصاد من جهة ولصاحبه من جهة أخرى من حيث الأمان وتقدير الذات والخبرة، كما يحوي العديد من المخاطر من حيث مخالفة الأنظمة والقوانين والصدمة، وفقدان مصدر الدخل الوحيد في أي وقت.

وأبدى إبراهيم عدم تأيده للعمل الذي لا يحقق وفرا في الإنتاج أو زيادة فيه ويبقى عمل فردي لا يخدم صاحبه أو المجتمع الموجود فيه، قائلا: لا أؤيد هذا النمط لأن سلبياته كبيرة لا تصب في خدمة الدولة أو حتى الشخص وغالبية من يعملون في هذا الأعمال يكونون عرضة للنصب والاحتيال أو تندرج أعمالهم تحت أعمال تخالف القانون الوطني والدولي.

عمل استهلاكي

وبين إبراهيم أن الأصل في العمل أن يكون عمل منتج يزيد من الإنتاج والإنتاجية، ومن الأنماط التقليدية للعمل في سورية وغيرها من الدول المتقدمة والنامية، أي أن يكون عبر المنشآت والمصانع والشركات التي تشغل عمالة كثيفة وتوفر فرص عمل للكثيرين وبالتالي يؤمن لهم متطلبات دخل مناسب للعيش الكريم، ومن أنوعه: العمل بأجر يومي أو أسبوعي أو شهري، وهناك نمط انتشر في العقدين الماضيين هو العمل لبعض الوقت لمدة ساعة أو ساعتين، وهناك اتفاقية دولية بشأنه اسمها العمل لبعض الوقت، إضافة إلى العمل الجزئي المحدد بأقل من ساعات العمل القانونية المحددة بثماني ساعات، وأكثر من ساعتين.

وتابع إبراهيم بوجود أنماط كثيرة أيضا منها العمل الجزئي اقل من ساعتين والعمل العرضي والموسمي أو العمل بالقطعة أو بالإنتاج وهذه الأنماط السابقة يمكن أن تكون في القطاع الصناعي أو الزراعي أو التجاري أو السياحي أو الخدمي وغيرها.

أما أفضل أنواع العمل وفقا لإبراهيم فهو العمل المحدد بأجر شهري لأن فيه ديمومة وأمان أكثر للعامل، أما الأنماط الحديثة للعمل عن بعد أو الجزئي أو الخدمي، أو العمل على تطبيقات التواصل الاجتماعي له ايجابياته وسلبياته، فهو عمل غير مضمون ولا يحقق الأمان للعامل والأهم من ذلك كله يعد عمل استهلاكي وخدمي لا يخدم الاقتصاد.