هل سيؤدّي التدمير الذاتي وزيادة الاحتجاجات إلى التأثير في القرار الأوروبي
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد:
تتزايد وتيرة الاحتجاجات التي تتخذ مظاهر مغايرةً وشعاراتٍ غير مسبوقة في أوروبا، كالتنديد بالتبعية لأمريكا وتشبيه حكومات أوروبا بالدمية بيد “الناتو”، ورفع المتظاهرين لافتاتٍ تطالب بخروج أمريكا وأخرى تؤيّد روسيا وتدعو إلى رفع العقوبات الأوروبية عنها، رفض المشاركون فيها دفع فاتورة الحرب من رفاهيتهم وأساسيات معيشتهم، ودعوا إلى السلام والحياد العسكري لبلادهم، وحل مشكلة تزايد اللاجئين في بلادهم، إضافةً إلى توجيه الانتقادات لرئيس نظام كييف فلاديمير زيلينسكي ومطالبته بإعادة مليارات الأوروبيين التي حصل عليها دون فائدة تذكر، حتى ضمن أوساط السياسيين الأوروبيين نشطت تلك المطالب، حيث شبّه سياسيون فرنسيون زيلينسكي بـ”الشخص الخطير” وطالبوا بلادهم بالكفّ عن دعمه، كما دعوا جميع السياسيين الغربيين إلى التحلّي بالحكمة اقتداءً بالجنرال شارل ديغول خلال حرب الولايات المتحدة على فيتنام، وجاك شيراك خلال حربها على العراق، وعدم الانخراط في الصراعات الدولية التي لا فائدة منها، وممارسة دور الحكم والوسيط لتحقيق السلام مع روسيا.
إنّ الزخم المتزايد في الشارع الأوروبي يثير العديد من التساؤلات الجوهرية التي مفادها: هل سيؤثر الشارع الأوروبي في قرار ساسته بشكل يجبرهم على الخروج من حالة الحرب بالوكالة والصدام مع روسيا، أم أنّ القرار الخارجي سيبقى كالعادة ملكاً لأمريكا وخادماً لمصالحها حتى لو أدّى ذلك إلى التدمير الذاتي لأوروبا؟.
ذهب العديد من الخبراء إلى أنّ هذه الاحتجاجات في الشارع الأوروبي ستحقّق نتائجها في وقتٍ قريب بدليل حدوث انشقاقاتٍ على مستوى النخبة السياسية، كما أنّ الشعب الأوروبي بدأ مع ساسته يُدرك أنّ أمريكا أصبحت تجني الأرباح الطائلة على حسابه، ناهيك عن الغرق في مشكلات اجتماعية كالبطالة والفقر وانخفاض مستوى المعيشة والتدهور الصناعي والتجاري، وهذا عزّز حالة من الصحوة ولو أنها جاءت متأخّرة لدى الساسة كالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس، وباتت انتقاداتهما واضحة لسياسات واشنطن التي تبيعهما الغاز بأربعة أضعاف سعره دون تقدير مواقفهما الداعمة للموقف الأمريكي إبان الحرب في أوكرانيا، وسبق أن أعلن ماكرون أنّ ارتفاع أسعار الغاز الأميركي “ليس ودّياً”، وكذلك دعوة وزير الاقتصاد الألماني واشنطن إلى إظهار مزيد من التضامن والمساعدة في خفض كلف الطاقة، أيضاً اتّفق شولتس وماكرون على أنّ أمريكا لا تدعم سوى الدول المنفّذة لأجندتها متبنيةً سياساتٍ حمائية.
ولا ننسى المحاولات الأوروبية العديدة تاريخياً للخروج من العباءة الأمريكية حتى ما قبل تداعيات أزمة أوكرانيا، وما سبقها كأزمة “كوفيد”، كذلك بدأت الشركات الأوروبية تتأثر وتنهار لمصلحة نظيراتها الأمريكية، وما يحدث يكلّف الأوروبيين كثيراً، وكل ما ذُكر بدأ يستغله اليمين الذي وصل إلى السلطة في عدة بلدان أوروبية، ويُهدّد بالوصول إليها قريباً في باقي أوروبا، بل حتى أقصى اليسار ينظّم حالياً مظاهراتٍ ضدّ السياسات الأوروبية، ومهما كانت رغبات النخب السياسية مرتهنة لأمريكا لكنها في الوقت ذاته تحلم بالتمسك بسلطة باتوا مهدّدين بفقدانها.
صحيحٌ أنّ خطة مارشال ساهمت تاريخياً بصعود عددٍ من الشركات الأوروبية، لكن النظرة الأمريكية نحو أوروبا مختلفة الآن فهي نظرة تدميرية، ولا يمكن للشارع أو حتى الساسة الأوروبيين قبولها، وسياسة بايدن في الصدام مع روسيا والصين ستؤدّي إلى عواقب مميتة على أوروبا، ناهيك عن الخطوات غير المدروسة كالانسحاب المفاجئ من أفغانستان، وبيع غواصات نووية لأستراليا، وقانون خفض التضخّم الأمريكي الذي يسبّب امتصاص الاستثمارات الأوروبية لمصلحة أمريكا.
يُضاف إلى ذلك النفور الأوروبي من النظام الرأسمالي الذي تسبّب بعدة أزمات اقتصادية الذي أثبت فشله منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وتداعيات “كوفيد”، وطموحهم لمحاكاة الأنظمة الاشتراكية التي تابعت النموّ والتطوّر رغم حجم الأزمات التي عصفت بالعالم، ما يدفعهم باتجاه الشراكة مع روسيا والصين والقوى الآسيوية الصاعدة على حساب العلاقات مع أمريكا.
أما على المقلب الآخر، فيرى العديد من الخبراء والمحللين أنّ الأفق سيبقى أسود على الصعيد الأوروبي، وأوروبا ستتابع السير على النار وسيتابع ساستها دعمهم للحرب مهما حدث وذلك لأسباب عديدة، حيث اعتبروا أنّ الأصوات الشعبية المتعالية في المظاهرات لا تعبّر عن النخب سواء ضمن الشارع أم حتى ضمن النخب السياسية، مؤكدين أنّ الأغلبية الأوروبية في الشارع ما زالت مغيّبة ومقتنعة بدعم أوكرانيا ضدّ روسيا، ومتأثرة بـ”الروسوفوبيا” إلى حدٍّ كبير، ومقتنعين بأنّ ما يجري هو أزمة اقتصادية عالمية سببها الأساسي “روسيا وحدها”، ولا تتحمّل أمريكا وفقاً لآرائهم المغيّبة أية مسؤوليةٍ عنها، كما يرى الخبراء أنّ بقاء النخب نائمة في العسل أمرٌ كارثي سيسبّب سحق اقتصادات أوروبية كبرى وفي مقدّمها ألمانيا.
ويقوي تلك التوجّهات التداخل الأمني والعسكري وحتى الاقتصادي بين أمريكا وأوروبا، فليس من السهل على أوروبا أن تضحّي بتبادل تجاري يناهز 2,3 تريليون دولار ونسبة الخلافات القانونية ضمنه لا تتجاوز 2%، وإذا قارنّا فإن نسبة تبادلها مع الصين والهند والقوى الآسيوية الصاعدة لا تتجاوز الـ10% بسبب معاندة الولايات المتحدة للانفتاح الأوروبي على تلك الدول، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الشركات الاستثمارية الكبرى الأمريكية والأوروبية تستثمر في كلتا المنطقتين والقرار السياسي من صنعهما بالدرجة الأولى لا من صنع ساسة الواجهات، ولا يمكن أن يسمحا لأحد بالمساس بمصالحهما المتبادلة مهما حدث وخاصةً شركات النفط والأسلحة، ناهيك عن السيطرة الكاملة للولايات المتحدة على القرار الاقتصادي الأوروبي، ونذكر جيّداً كيف أنّ الرئيس الأمريكي جو بايدن اتّخذ قراراً بأن خط غاز “نورد ستريم” لن يعمل، ورغم معارضة قراره إلا أنه طُبّق في النهاية وكأنه قرار داخلي أمريكي، وبالتالي فإنّ القرار الاقتصادي غير مستقل نهائياً.
أما على صعيد التداخل العسكري، فإنّ الدرع الصاروخي الأمريكي يمتدّ على معظم أراضي أوروبا، كما أن حلف الناتو عملياً هو حلف أمريكي القيادة، وبالتالي فإنّ أوروبا بين فكّي كماشة عسكرياً وأمنياً ومكشوفة تجاه أي تحرّك مخالف لأمريكا.
إنّ كل ما تم سردُه يدفعنا إلى القول: إن الساسة الأوروبيين ومهما اتصفوا بالجنون إلا أنه لا يمكنهم المتابعة في المسار ذاته، المدمّر لبلدانهم، وعليهم أن يثبتوا أنهم عقلاء عبر حياديتهم وكفّهم عن زيادة التصعيد وخاصة تجاه روسيا والصين، ليجنّبوا شعوبهم ويلاتٍ لا يمكن تجاوز تداعياتها خلال عقود، وخاصة أنهم الآن أصبحوا شبه عاجزين عن دعم نظام كييف بالأسلحة بعد استنزافهم لمخازينهم منها وتوقّف الإنتاج في مصانعهم، كما أن عليهم تبرير أزماتهم الاقتصادية التي بدأت منذ تعمّد الولايات المتحدة طباعة تريليونات من الدولارات وتكديسها وتوزيعها على القوى التابعة لها لخلق بؤر توتر تقوّي غطرستها وهيمنتها على العالم.