أفغانستان والأمن الإقليمي في آسيا الوسطى
سمر سامي السمارة
استرعت أفغانستان اهتمام معظم جيرانها الإقليميين، فهي تتمتع بموقع جيواستراتيجي مهم، فضلاً عن كونها حلقة وصل أساسية في تطوير التعاون بين وسط وجنوب آسيا، بالإضافة إلى قضايا الأمن الإقليمي.
ولا ترى دول آسيا الوسطى، المهتمة بالتعاون متعدد الأوجه مع جميع جيرانها، في أفغانستان مصدراً للتحديات والتهديدات المحتملة، بل تنظر إليها كبلد تتاح فيه الفرص، ولا بد من دمجها في أسرة آسيا الوسطى الأكبر في المستقبل.
ونظراً لعدم ظهور أي قوة سياسية مساوية لحركة طالبان في البلاد منذ عام 2021، فإن المنطقة تدرك أهمية تجنب ما حدث في التسعينيات، عندما ساهمت عزلة طالبان في تطرفها الراديكالي واندماجها مع الإرهاب الدولي. لذلك، بدأت أوزبكستان وقيرغيزستان وحتى كازاخستان بتطوير الحوار مع الحكومة الأفغانية الحالية، سواء بشكل مباشر أو ضمن أشكال دولية مختلفة، بما فيها طشقند، لإرسال مساعدات إنسانية.
وتتمتع دول آسيا الوسطى بعلاقات تجارية واقتصادية أقوى مع جارتها الجنوبية، ومن المقرر تنفيذ العديد من مشاريع البنية التحتية الرئيسية، بما في ذلك خط السكك الحديدية من مزار الشريف إلى بيشاور الباكستانية. لكن في ظل غياب السلام والاستقرار على الأراضي الأفغانية حتى الآن، تظل قضايا الأمن، والتصدي لتهديدات المتطرفين والإرهابيين المتواجدين من أفغانستان، موضوعاً رئيسياً للحوار متعدد الأطراف لدول آسيا الوسطى.
ومن المؤكد أن دول المنطقة تدرك جيداً أنه على الرغم من كل التأكيدات التي قدمتها طالبان بأن المعارضة الأفغانية الراديكالية لن تتعدى على وحدة أراضي آسيا الوسطى، فإن مجرد الكلمات لا تكفي، خاصةً وأن السلطات الحالية في كابول لا تسيطر على كافة الأراضي الأفغانية، وبالتالي فهي غير قادرة على تتبع أنشطة مختلف الجماعات الإرهابية المتطرفة، لا سيما تنظيمي “القاعدة” و”داعش” اللذين وسعا نطاق وجودهما بشكل كبير في البلاد خلال العام الماضي.
وأشار العديد من الخبراء، بالإضافة إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في وقت سابق من هذا العام، إلى استمرار التهديد الإرهابي من الأراضي الأفغانية، خاصةً مع إعادة بناء معسكرات تدريب المنظمات الإرهابية، وإطلاق سراح العديد من إرهابيي “داعش” من السجون الأفغانية. كما أفادت مصادر مختلفة عن زيادة كبيرة في عدد إرهابيي “القاعدة” و”داعش” في الأشهر الأخيرة، ما أدى إلى زيادة الهجمات الإرهابية داخل أفغانستان.
ويقدر الخبراء أن الأزمات الإنسانية والاقتصادية التي اجتاحت البلاد منذ تغيير السلطة ساهمت بشكل كبير في زيادة النشاط الإرهابي في أفغانستان، فقد إنزلق أكثر من 97٪ من السكان إلى حافة الفقر المدقع في العام الماضي، و تقلص الاقتصاد الأفغاني بأكثر من 40٪.
لذلك برزت في الآونة الأخيرة قضايا الأمن الإقليمي فيما يتعلق بالتطورات في أفغانستان، حيث أكد قادة آسيا الوسطى في مختلف المحافل الإقليمية والدولية الاستعداد لتطوير التعاون لضمان الأمن والاستقرار على أرض أفغانستان التي عانت طويلاً، وقد وردت الحاجة إلى هذا التفاعل بشكل خاص في الوثيقة الختامية للاجتماع التشاوري الرابع لرؤساء دول المنطقة الذي عقد في قيرغيزستان في شهر تموز من هذا العام.
ومع ذلك، فإن فعالية الإجراءات التي اتخذتها دول آسيا الوسطى في هذا الصدد مقيدة بالتنافس الاستراتيجي الأمريكي المتزايد في المنطقة مع الصين وروسيا، فضلاً عن محاولات “الغرب الجماعي” تحويل العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا إلى حرب ضد روسيا، وجر مناطق بعيدة جداً عن كييف إلى هذه الأحداث لإبقاء القوى الإقليمية – الصين وروسيا وإيران – في حالة ترقب.
بالإضافة إلى ذلك، فإن حرب العقوبات التي تشنها الولايات المتحدة ودول الناتو ضد روسيا تحاول تقسيم السوق العالمية وإجبار قادة المنطقة على الاختيار بين الاتجاهين “الأوروآسيوي” و”الأطلسي” للتنمية، لمصلحة واشنطن.
ولهذه الغاية، على وجه الخصوص، وضعت وزارة الخزانة الأمريكية أوزبكستان وقيرغيزستان وكازاخستان على قائمة الدول التي يُزعم أنها تنتهك نظام العقوبات، حيث أعرب سفيرا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في طشقند عن استيائهما من أن وسائل الإعلام المحلية لم تكن “معادية لروسيا” بشكل كافٍ في تغطيتها للأحداث في أوكرانيا، وطالبا بفرض حظر على وسائل الإعلام الروسية.
قامت الولايات المتحدة مؤخراً بمحاولة أخرى لبناء هيكل أمني إقليمي لصالح لواشنطن في الدوحة. وبحسب تقارير صادرة عن وسائل إعلام غربية، فقد ركز الاجتماع، حسبما زُعم، على تنفيذ اتفاق الدوحة، ورفع العقوبات عن القطاع المصرفي الأفغاني، وتحويل الذهب والنقد الأجنبي الأفغاني. ومع ذلك، فإن الاجتماع والتشكيل التمثيلي للمشاركين فيه لا سيما في شخص ديفيد كوهين مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية، وإليزابيث كيمبر نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية للعمليات، وتوم ويست المسؤول عن الملف الأفغاني في وزارة الخارجية الأمريكية، يوضح المحاولات المشتركة بين الولايات المتحدة وطالبان للتوصل إلى اتفاقات جديدة.
وعلى خلفية العلاقات المتوترة الأخيرة بين الدول الغربية وروسيا وإيران والصين، حاولت القيادة الأفغانية الجديدة في هذا الاجتماع أن توضح لنفسها موقفها المستقبلي ودورها في “اللعبة الكبرى الجديدة في آسيا الوسطى”. وبحسب الصحفي الأفغاني سامي داري، رتب رئيس استخبارات طالبان بالإنابة، عبد الحق واثق، مع وكالة الاستخبارات المركزية لنشر 3000 جندي من القوات الخاصة الأمريكية في شمال أفغانستان، مقابل المزيد من المساعدات الاقتصادية واعتراف واشنطن بـ “حكومة طالبان”.
وبحسب المصدر الإخباري الطاجيكي “سانغار”، فقد ركزت المحادثات على إنشاء جبهات إرهابية في شمال أفغانستان، وتدريب الجماعات الإرهابية لتحقيق أهداف أمريكية مستقبلية في خلق مشاكل أمنية للصين وروسيا، وعلى وجه الخصوص، تشكيل جبهات حرب نشطة في آسيا الوسطى والحدود الشمالية لأفغانستان.
ما يلفت الانتباه، هو الموقف الأمريكي الاستعماري الجديد بشكل سافر تجاه آسيا الوسطى، والذي عبر عنه أنتوني بلينكين خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ، من أن وزارة الخارجية الأمريكية ترسل “تحذيرات” إلى دول المنطقة.
يعارض سكان ونخبة دول آسيا الوسطى موقف واشنطن علناً، ونتيجة لذلك يتعاطف المجتمع الأسيوي مع روسيا في المواجهة الحالية، وقد ظهر ذلك من خلال نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “غالوب”، حيث أيد 76٪ من قرغيزستان في عام 2021، و69٪ من الأوزبك، و55٪ من سكان كازاخستان القيادة الروسية في المنطقة.