المثقّف بعيداً عن مسؤوليّاته الاجتماعية والثّقافية!!..
نجوى صليبه
في كلمته التي ألقاها خلال تكريم الشّاعر صقر عليشي منذ فترة قريبة في فرع دمشق لاتّحاد الكتّاب العرب، روى الشّاعر توفيق أحمد كيف تعرّف على عليشي بالقول: تعرّفت عليه في عام 1976، وكنت حينها ناجحاً إلى الثُالث الثّانوي، عندما دقّ باب غرفتي في قريتي الصّغيرة، وإذ به صقر عليشي ومعه الفنّان مصطفى رعدون، وكنت لا أعرفهما إطلاقاً، وقالوا لي: عندما نسمع بأنّ شخصاً ما يكتب في أي بيت وفي أي قرية، نذهب إليه ونشجّعه.
موقف من مواقف كثيرة عاشها أدباء مخضرمون في بداية طريقهم، بعضهم يرويها في بعض الجلسات والمناسبات بحبّ وشغف وتقدير ليدٍ مُدّت إليهم وساندتهم ولو بكلمة، وبعضهم يخفيها ربّما خجلاً وربّما رغبةً منه في أن يظهر بمظهر المكافح والمناضل الذي حفر في الصّخر ولا منيّو لاحد عليه، ولن نقول إنّ المثقف أو الأديب في تلك الأيّام كان يتمتّع بخصالٍ حميدةٍ ـ وإن كان الأمر كذلك ـ لكن سنقول كان لديهم حسّ بالمسؤولية أكثر ممّا هم عليه اليوم، نتحدّث هنا عن المسؤولية الاجتماعية الثّقافية، التي تمثّل أرقى أنواع المسؤوليات وأكثرها أهميّة لأنّها ترقى بالعقل وتحرره من كلّ الشّوائب وتنمّيه وتعدّ مجتمعاً متعلّماً مثقفاً، وهذا ما نحن بأمسّ الحاجة إليه اليوم، ولا سيّما بعد ثورة التّقنيات والتّكنولوجيا التي غزت العقول وأبعدتها عن عادات كنّا نفاخر فيها كالمطالعة والمناظرات الثّقافية والحياة الاجتماعية الجميلة، وقرّبتها من إنتاج سريع لا أدري إن كان من الصّواب وصفه بالأدبي، ونشمل ها هنا جميع الشّرائح العمرية، ولا نستثني منها واحدةً، وما زاد الطّين بلّة، أنّ تبعات الحرب انعكست على الجميع أيضاً، ليصير معها شراء قصّة لطفل أمراً مثيراً لسخرية البعض ممّن لا يدرك ما يفعله الجوّال بعقله وتفكيره وجسده، ولن نتحدّث هنا عن دور أي جهةٍ معنيةٍ، لكن سنخصص الحديث عن مسؤولية المثقّف تجاه مجتمعه فقط، يقول الدّكتور والأديب نزار بني مرجة: من حقّ المثقّف بالتّأكيد أن تكون له فرصة التّأمّل وحتّى العزلة ربّما، ليفكّر في صيرورة المجتمع والعالم من حوله، وخصوصاً في عالم اليوم الذي نتخبّط فيه بين أنماط الحياة الاستهلاكية السّاحقة للرّوح والمشاعر، وصولاً إلى سحق الأجساد قتلاً أو انتحاراً، في ظلّ اضطرابات سياسية واجتماعية واقتصادية غير مسبوقة في التّاريخ البشري، والتي تهدف وتؤدّي كنتيجة بالضّرورة إلى تسليع الإنسان وتجريده من هويته وخصوصيّته ومشاعره الإنسانية، مبيّناً: أمام هذا الواقع، أعتقد أنّه من الطّبيعي والمنطقي أن يجد المثقّف في تواصله مع محيطه قوّة وضمانة له، لأنّ كلّ تفكّك في المجتمع سيخدم ذلك المخطط الجهنمي لتدمير الكيانات والمجتمعات الإنسانية، وتقويض أحلام الشّعوب في صنع مستقبل كريم لأبنائها تسوده الطّمأنينة ويعمّ فيه العدل والرّخاء، مضيفاً: هنا تبرز أهمية دور المثقّف كعيّنة واعية من مجتمعه، تدرك خطورة ما يحصل، وتفرض عليه استمرار علاقته العضوية مع مجتمعه ومحيطه، وليس الانعزال والانكفاء، لأنّ في ذلك مقتل للمثقّف عندما يتخلّى عن مسؤوليته، ومقتل للمجتمع الذي يواجه مصيراً وجودياً، بكلّ ما تعنيه الكلمة.
إذاً، ما هي مشكلة المثقّف العربي؟ وما الذي يجعله بعيداً عن مجتمعه كلّ هذه المسافة؟ يجيب الشّاعر العراقي عادل الصّويري: مشكلة غالبية المثقّفين هي التّوتّر السّلبي الذي يجعلهم “إشكاليين”، لذلك نراهم غاطسين في بركة من تراكمات مفاهيمية توهمهم أنّ المثقّف الإشكالي هو المثقّف الحرّ، كما أنّ قضية ادّعاء الثّقافة مدعوماً بمجانية التّواصل الإلكتروني، صارت من أبرز المشكلات حيث تضخم الـ”أنا” والنّرجسية، حتّى صرنا أمام احتشاد “ثقافي” واجتماعي بائس، يلزم أن تكون إزاءه وقفة جادة ناقدة ومحللة لتداعياته الخطرة، ولا ينبغي التّوقّف عند الرّصد والمراقبة من دون إنتاج، لابدّ من فعلٍ يعيد للثّقافة وجهها الحضاري، ويمنحها هويتها الإنسانية والإبداعية الحقيقية بجرأةٍ وشجاعةٍ، بدلاً من ضجيج الشّكوى في المقاهي والجلسات الخاصّة، ومن دون هذا الفعل يبقى الرّصد في خانة جلد الذّات التي قد تنتج مستقبلاً استلاباً ثقافياً يلقي بظلاله السّلبية على المجتمع، ويبدأ من اغتراب ذات إلى شيوع بلا قيمة، وهذا الفعل يبدأ من الذّات ويتعزز بالمؤسسات الرّصينة والحريصة.
ويتابع الصّويري وينوّه بمسألة مهمّة جدّاً، يقول: الاغتراب الثّقافي هو الأقرب لواقع المثقّفين والمفكّرين اليوم، وهو الذي يجعلهم ميّالين للفردية النّاتجة عن تشظّي الهوية الثّقافية بين موروث وحداثة تُغيّب الخصوصية، وبين سلوك المثقّفين الذين يدّعون الحداثة في المقاهي والنّدوات، بينما نراهم أقرب للبداوة في منازلهم، وقد تنتج عن هذه الفردية تداعيات تستغلّها الجهات التي ستستثمر انزواء المثقّف، لتمارس منهج التّجهيل بالمعرفة، فيتفشّى الخدر الثّقافي والفكري في صفوف المجتمع، وقد تكون التّداعيات أشدّ في حال انخرط المثقّفون في مشاريع التّجهيل التي لن تضرّ بفرديتهم بينما قد تعود عليهم هذه المشاريع بالفائدة لكونهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا سلعاً جاهزة لترويج التّجهيل.
ولأنّ الثّقافة هوية ومستقبل بلد، لا يمكن فصله عن السّياسة، يقول الأديب مختار عيسى نائب رئيس النّقابة العامّة لاتّحاد كتّاب مصر: لاتزال للنّهج الجراثيمي أفاعيله في الجسد العام بالمنافع المتبادلة، ومن ثمّ فإنّ أمراضاً عدّة يعانيها الهيكل الثّقافي كالشّللية والنّجمنة والتّواطؤ النّقدي من مؤسسات وأفراد بإعلاء مالا يستحق إعلاؤه وإخفاض الأولى بالإرفاع، استجابةً لتوجّهات سياسية أحياناً أو منافع رأسمالية متبادلة، وفق ثقافة الحظيرة التي مكّنت عدداً من الأنظمة السّياسية من تدجين عدد من كبار المثقفين وتهميش آخرين حماية لنهج السّلطة التي لا ترحّب كثيراً إلّا بالتّصفيق لحكمتها، ولا تتحمّل النّقد أو حتّى محاولة التّبصير، وتعمل السّلطات بكلّ أشكالها السّياسية والاقتصادية والاجتماعية على تدعيم هذا الخلل الهيكلي الذي يجعل الثّقافة العامّة بحراً هائجاً وهادئاً في آنٍ ما دام المثقّفون يعملون في جزر منعزلة رغم المؤتمرات والنّدوات والمؤسسات العامّة والخاصّة، مضيفاً: أعتقد أنّ الأمر يفرض إعادة النّظر في السّياسات الثّقافية العامّة التي تحوّلت في كثير من تجليّاتها إلى مناسبات كرنفالية تغري متوسّطي الثّقافة بالفوز في حضور تحت لافتة برّاقة فيما يتمّ إقصاء مثقّفين حقيقيين من المشهد، فيضطرون تحت وطأة التّهميش المتعمّد فضلاً عن ضغوط الحياة الاقتصادية إلى الانصراف عن الشّأن العامّ، تاركينه فريسةً للأرباع والأخماس، والنّظرة السّريعة إلى ميزانيات الثّقافة في أي قطرٍ عربيٍّ ستكشف بالقطع عن هذا الخلل الذي ربّما يدعم التّصوّر الغوبلزي القائم على التّحفّز ضدّ الثّقافة بتحسس المسدس دائماً.
ويتابع عيسى: المثقّف العضوي بالمفهوم الغرامشي لم يعد له السّطوع على شاشة العرب في ظلّ سيطرة الميديا الإلهائية والبرامج الاقتصادية التي تسل عن الثّقافة وتحول دون وصولها إلى مناطق استحقاقها بأساليب تجارية محض، فيما لا طاقة للمثقف بالإنفاق على ندوة أو إصدار كتاب، أو تنظيم ما يستوجبه إيمانه بدوره المفترض، لكونه الأكثر ثراءً معلوماتياً والأقدر إبداعياً بالمفهوم العامّ للإبداع عن التًعبير عن قضايا الوطن وحقوق الإنسان في أيّ بقعة من العالم الحرّ، لذا لا بدّ من تأمين حياة كريمة للمثقّف توفّر له مناخاً لا يستلبه من إبداعه مشغولاً بلقمة عيش.